هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English


تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة لحرب السودان. تعكس الآراء الواردة في هذه المقالة آراء المؤلف فقط وليس آراء أندريا. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا

ملاحظة تمهيدية


بعد قراءة متأنية، أعتقد أن البحث المعنون بـ" خطوط المواجهة الجندرية: قراءات نسوية للعسكرة في السودان، جنوب السودان، وإريتريا" يقدّم رؤية عميقة ومدروسة حول التشابكات بين العسكرة والجندر في القرن الأفريقي. تُظهر الدراسة منظوراً نسوياً يُبرز التجارب المعاشة، والتقاطعية، والتحليل التاريخي. كما تكشف عن الكيفية التي تتجذّر بها العسكرة في الحياة اليومية للنساء والمجتمعات المهمشة في السودان، جنوب السودان، وإريتريا.


 

ما وجدته مثيراً للاهتمام بشكل خاص هو قدرة الورقة البحثية على الجمع بين البحث التجريبي والتحقيق النقدي، مستندة إلى رؤى مفكرات نسويات مثل سينثيا إنلوي، أمينة ماما، ومارغو أوكازاوا-راي (اللاتي لم أكن على دراية بأعمالهن من قبل)، فضلاً عن وضع العسكرة ضمن سيرورة تاريخية وأيديولوجية طويلة الأمد، بدلاً من اعتبارها حدثاً سياسياً معزولاً ومحدوداً.

 

تُظهر الشهادات التي أدلت بها ناشطات وصحفيات ونساء نازحات عرضاً سياقياً لكيفية تحوّل العسكرة إلى أمر مُطبع في المجالات المؤسسية والثقافية والحميمية. ورغم أن الإطار التفسيري للورقة يتموضع أساساً ضمن حقل النظرية النقدية النسوية، وخاصة في بُعدها التقاطعي، إلا أنه يفتح كذلك مجالاً للتفاعل مع تقاليد أوسع من الفكر ما بعد البنيوي ومنظورات لاكانية.

 

إن تأملاتي هنا لا تهدف إلى نقد الورقة البحثية بالمعنى التقليدي، بل إلى التفاعل معها انطلاقاً من خلفيتي الفلسفية في قضايا الخطاب الجندري ومنطق العسكرة. وتطمح هذه الملاحظات إلى إثراء الورقة البحثية عبر إعادة تقييمها في ضوء نظرية الخطاب عند لاكلو، النظرية السياسية-التحليلية النفسية عند لاكان، وكتابات فوكو حول الانضباط والسياسة الحيوية.


تأملات حول الخطاب النقدي النسوي

 

يركّز النقد النسوي المُفصّل الذي صاغته الورقة البحثية بشكل صحيح على الكيفية التي طبعت بها الأنظمة العسكرية في السودان وجنوب السودان وإريتريا التسلسلات الهرمية الجندرية، وتسخير أجساد النساء وسردياتهن كأدوات للسلطة القومية الأبوية. ومن خلال الخطاب والسياسات الرمزية، تكشف الورقة كيف أن العسكرة تحصر النساء في أدوار محدودة: إما كرموز للهوية الثقافية، أو كموضوعات للحماية، أو كضحايا للعنف المرتبط بالنزاعات. غير أن الورقة – على الرغم من إضاءتها الصحيحة للعنف الرمزي والإقصاءات المادية المتجذرة في المعايير الجندرية العسكرية – إلا أن تركيزها التحليلي يبقى إلى حد كبير ضمن إطار الكشف عن التحريفات الأيديولوجية الزائفة ومواجهتها، وكان بإمكانها أن تستفيد من معالجة أكثر عمقاً للكيفية التي تكتسب بها هذه المعايير قوتها العاطفية والبنيوية على المواضيع. وهنا، يقدّم كلٌّ من نظرية الخطاب لدى إرنستو لاكلو والرؤى التحليلية النفسية لدى جاك لاكان موارد قيّمة لإعادة التفكير في طبيعة الأيديولوجيا، والذاتية، والتماهي في سياق التحليل النسوي.


 

من منظور لاكلو ولاكان، ليست الأيديولوجيا مجرد مجموعة من المعتقدات الخاطئة المفروضة من الأعلى أو قناع يُشوّه الواقع. بل هي ما يُمكّن من بناء الواقع ذاته بالنسبة للذوات. إنها التي توفّر الإحداثيات الرمزية التي من خلالها يفهم الأفراد أنفسهم والآخرين والعالم. ومن هذا المنطلق، فإنّ ما هو على المحك في النقد النسوي ليس مجرد كشف التحريفات الأيديولوجية حول الجندر، بل يتجاوز ذلك إلى مساءلة الآليات الخطابية التي تُنتج مواقع الذات الجندرية باعتبارها مفهومة ومرغوبة داخل الأنظمة العسكرية للسلطة.


إن تصوّر لاكلو للخطاب كحقل من اللاـحتمية والتضاد يفتح أفقاً جديداً لفهم الرهانات السياسية للنضال النسوي. ففي السياق المُعسْكَر، لا تُعَد خطابات الذكورة والأنوثة مُسلّمات طبيعية، بل هي تشكّلات ظرفية تراكمت عبر الزمن من خلال الممارسات الاجتماعية المتكررة والترتيبات المؤسسية. إن صورة "المرأة المُعسْكَرة" – كراعية، أو كضحية، أو كأم وطنية، أو في بعض الحالات كجندية – ليست مجرد تمثيل، بل هي نقطة محورية في حقل خطابي يسعى إلى تقريب المعنى وتثبيت الهوية. ومن هنا، فإن الخطاب النقدي النسوي يجب أن يهدف إلى كشف الطابع الظرفي لهذه التشكلات وإعادة فتح المجال أمام إمكانات جديدة لمواقع ذاتية بديلة.

 

من جانب آخر، يقدّم لاكان مفهوم "الذات" بطريقة تقلب الفهم التقليدي لها ككيان متماسك ومستقل يسبق الخطاب أو السلطة. فالذات – بحسب لاكان – تُنتَج داخل اللغة والهياكل الرمزية، وهي هياكل غير مكتملة ومشحونة بالتناقضات. ما يميز الذات في فكر لاكان هو النقص البنيوي المؤسِّس، أي الفجوة التي تنشأ مع الدخول في النظام الرمزي ذاته. هذا النقص ليس حادثاً عارضاً، بل هو شرط أساسي للذاتية: غياب الهوية الثابتة والمستقرة. وهو ما يُحرّك الرغبة: فنحن نرغب لأننا نفتقر، ونسعى وراء هويات رمزية لإخفاء هذا النقص مؤقتاً لمنح وهم الكمال.

 

في الحقل الأيديولوجي، وخصوصاً داخل الأنظمة المُعسْكَرة كالمذكورة في الورقة البحثية، يُسقَط هذا الوهم بالكمال عبر الشخصيات المثالية مثل: الجندي، الشهيد، الوطن الأم، الحامي البطل، أو المرأة الراعية المُضحية. هذه الصور تعمل على مستوى ما يسميه لاكان المتخيَّل، لكنها مدعومة ومرهونة في الوقت ذاته بالنظام الرمزي (القوانين، الأدوار، المؤسسات) الذي يثبّت الهوية عبر اللغة والأدوار الاجتماعية. غير أن هذه التماهيات، رغم قوتها، لا تفي أبداً بوعدها في تحقيق التماسك أو الكمال. إنها دوماً قاصرة، وهذا القصور البنيوي هو ما يجعل الذات عرضة لتأثير الأيديولوجيا.

 

فالأيديولوجيا، بهذا المعنى، ليست مجموعة من المعتقدات الخاطئة المفروضة؛ بل هي بنية الخيال التي تمنح الذات وسيلة للتعامل مع صدمة النقص الرمزي، وتوفّر إحداثيات للرغبة. وفي المجتمعات المُعسْكَرة التي تناقشها الورقة، تمنح الأيديولوجيا الذات الوهم بأنه من خلال الخضوع للأمة، للزي العسكري، للواجب الجندري، يمكنها أن تتجاوز الاغتراب وتبلغ الكمال. ولهذا يتشبث الأفراد بمواقع التبعية حتى عندما تكون قمعية، لأن هذه المواقع مشبعة باستثمار عاطفي. فالصبي المجنَّد قد يكره عنف العسكرة، لكنه يشعر أن حياته "ذات قيمة" فقط حين يرتدي الزي العسكري. وبالمثل، قد تستاء المرأة التي تُحشد كرمز وطني من محوها، لكنها تخشى أيضاً من اختفائها الاجتماعي إذا حُرمت من هذا الدور.



وهكذا، لا يمكن أن تظلّ المقاربة النسوية عند حدود فضح زيف القوالب الجندرية المُعسكرة. فالمسألة ليست مجرد إشكالية معرفية (أن الناس يعتقدون أفكاراً خاطئة عن الجندر)، بل إن النظام الجندري المُعسكر يقدّم وعداً شعورياً بالاكتمال والامتلاء. تفكيك هذا النظام يتطلّب بناء خيالات بديلة، ومواقع رمزية أخرى يمكن للأفراد أن يجدوا أنفسهم فيها وجدانياً وسياسياً. وهنا نصل إلى نظرية إرنستو لاكلو السياسية حول الهيمنة، والدور المحوري لسلسلة التكافؤ في عملية التشكل السياسي.

 

يرى لاكلو، مستنداً إلى كلٍّ من غرامشي ولاكان، أنّ السياسة تنبثق تحديداً من استحالة كمال النظام الاجتماعي. لا يمكن لأي بنية، ولا نظام سياسي، ولا هوية، ولا أيديولوجيا أن تستوعب مجال المعنى بالكامل. هناك دوماً إفراط وتناقض وإقصاء. وهذا النقص البنيوي يفتح المجال لظهور العداء: اللحظة التي تعجز فيها المؤسسات والخطابات القائمة عن استيعاب المطالب، وعندها يصبح إنتاج صيغ سياسية جديدة ممكناً.

 

يطلق لاكلو اسم “سلسلة التكافؤ” على العملية التي تُربَط من خلالها مطالب اجتماعية مختلفة ومتفرقة، بل ومتباينة، حول دالٍّ مشترك. فقد تنشأ هذه المطالب من نضالات مختلفة (ضد التهميش الاقتصادي، أو ضد العنف الجنسي، أو ضد الإقصاء العرقي، أو ضد التدمير البيئي)، لكنها عبر التعبير السياسية تُقدَّم كأعراض لظلم بنيوي أوسع. وظيفة هذه السلسلة هي تحويل الاختلاف إلى وحدة، لا عبر محوه، بل عبر إخضاعه لمشروع سياسي جامع.

 

وفي سياق الأنظمة الجندرية المُعسكرة، تواجه الحركات النسوية سؤالاً جوهرياً: كيف يمكن صياغة النضال ضد العسكرة الأبوية لا باعتباره قضية نسائية فحسب، بل كقضية ديمقراطية شاملة؟ هذه مسألة تحالف بالمعنى الذي يشير إلى آلية الهيمنة السياسية: أي بناء “شعب” لم يكن موجوداً، وتوحيد الذوات المجزأة في إرادة سياسية مشتركة. وهنا يؤكد لاكلو أنّ هذه السلاسل تبقى دائماً ظرفية وهشّة. فهي ليست طبيعية، بل يجب أن تُصاغ وتُبنى عبر الخطاب والنضال. أما الدالّ الذي تتشكل حوله السلسلة، أو ما يسميه بـ “الدال الفارغ”، فلا يشترط أن يحمل مضموناً محدداً بذاته؛ ما يهم هو قدرته على جمع مطالب متفرقة في أفق مشترك للمعنى. وفي السياق النسوي، قد يكون هذا الدال مفاهيم مثل: “التحرر”، “الكرامة”، أو “الحياة”.

 

إن النداء الختامي في الورقة لإعادة تصور الأمن “خارج منطق العسكرة” يشير إلى مثل هذا الأفق، لكن يبقى التحدي في كيفية صياغة هذا الأفق سياسياً على نحو ملموس، وعبر تقاطعات النضالات المختلفة.


بالعودة إلى الورقة البحثية، لا تقتصر المهمة على معارضة الذكورة المسلّحة أو تفكيك استخدام الأنوثة كأداة، بل يتمثل في إنتاج خطاب مضاد للهيمنة؛ أي إنشاء مجال رمزي جديد يُمَثَّل فيه الرفض النسوي للعسكرة كجزء من نضال أوسع من أجل الحياة والعدالة والديمقراطية، وهو نضال يتحدى البنية الكاملة التي تظهر فيها العسكرة كأمر ضروري أو حتمي. في هذا المجال، يمكن لشخصية المرأة المقاومة (المحتجة، المقدّمة للرعاية، المعارِضة، اللاجئة، الناشطة) أن تصبح الذات السياسية الجديدة التي يُبنى حولها التكافؤ. يجب ألا يقتصر النقد النسوي على تحليل كيفية إنتاج العسكرة للهيمنة الجندرية، ولا يقتصر على مجرد إدراج النساء في أجهزة الأمن القومي أو الدعوة لتمكين النساء من المشاركة في مفاوضات السلام، على الرغم من أهمية تلك الأهداف. بل يتطلب ذلك إعادة تموضع المجال الرمزي نفسه: أي تغيير المصطلحات التي يفهم من خلالها الأفراد أنفسهم ورغباتهم ومستقبلهم.

 

تأملات حول العسكرة كنظام للسلطة التأديبية والسيطرة البيوسياسية

 

أتفق مع الورقة في توضيحها كيف أن العسكرة ليست مجرد حالة حرب، بل هي بنية للحياة اليومية. فهي توضّح كيف يتقاطع الجنس والعنف والقومية والأمن لإنتاج واقع اجتماعي غير متساوٍ وعنيف في كثير من الأحيان للنساء وللفئات المهمشة الأخرى في السودان وجنوب السودان وإريتريا. ومع ذلك، بينما تستكشف الورقة الترتيبات المؤسسية للعسكرة، يمكن إثراؤها أكثر من خلال التفاعل المكثف مع نظريات ميشيل فوكو حول السلطة التأديبية والسياسة الحيوية. تتيح لنا هذه المفاهيم إعادة تصور العسكرة ليس فقط كجهاز أيديولوجي ذكوري أو مؤسسة عسكرية، بل كعقلانية حكمية ونمط شامل لتنظيم الهيئات والسلوكيات والسكان.

 

في دراسته لأصول السلطة الحديثة، يميز فوكو بشكل حاسم بين السلطة السيادية، والسلطة التأديبية، والسياسة الحيوية. وفي ظل السيادة الكلاسيكية، كانت السلطة تعمل أساساً كحق للحاكم في قتل النفس أو تركها تحيا. أي أن السلطة كانت تُعبّر عن نفسها من خلال العنف المباشر، والأوامر الصريحة، والسلطة القضائية. ومع ذلك، ابتداءً من القرن الثامن عشر ومع تسارع وتيرة الحداثة، بدأت السلطة تعمل بطريقة مختلفة: لم تعد تعتمد على القمع المباشر أو التهديد بالموت، بل على إنتاج الحياة. بمعنى أن السلطة بدأت تهتم بالجسد وإمكاناته ليس لتدميره، بل لتحسينه وإدارته وتنظيمه.


السلطة التأديبية، بحسب فوكو، هي أول شكل من أشكال هذه السلطة الجديدة. فهي تستهدف جسد الفرد: تسعى لجعله مطيعاً، منتجاً، خاضعاً ومؤهلًا في آن واحد. تعمل السلطة التأديبية عبر مؤسسات مثل الثكنات العسكرية، المدرسة، السجن والمستشفى. وتعمل من خلال المراقبة، التطبيع، الفحص، والتدريب المستمر. وما هو جوهري هنا أن السلطة التأديبية لا تعمل بالقوة الوحشية وحدها؛ بل تقوم بإضفاء السيطرة داخلياً، فهي تحفّز الفرد على تنظيم نفسه، على الامتثال من خلال التعود، والرغبة، وإعادة إنتاج المعايير. والجيش هو المؤسسة النموذجية لهذا المنطق؛ فجسد الجندي يُشكّل ويُعاير ويُوضع وفق برامج تدريبية صارمة. حركاته، وضعه، نظره، وقدرته على التحمل كلها تخضع لهذه الأنظمة. لكن هذا لا يقتصر على الجنود فقط، إذ يمتد منطق الانضباط (النظام، التكرار، المراقبة، الخضوع) إلى الحياة المدنية. ففي المجتمعات المسلحة مثل إريتريا أو جنوب السودان، تصبح المدرسة، الحي، مخيم اللاجئين، والأسرة بؤرًا مُصغَّرة للانضباط، ممَّا يُمدد العقلانية العسكرية إلى المجال المدني.

 

ومع ذلك، لا يمكن للسلطة التأديبية وحدها تفسير تقنيات إدارة السكان التي تميز الأنظمة الحديثة. هنا يأتي دور السياسة الحيوية. إذا كانت السلطة التأديبية تركز على الفرد، فإن السياسة الحيوية تعمل على الكل. السياسة الحيوية هي العقلانية التي من خلالها تدير الدولة حياة النوع البشري: معدلات الولادة والوفاة، مكافحة الأمراض، النظافة، الخصوبة، التغذية، التنقل، وغير ذلك. فهي تتعامل مع السكان ليس ككيان قانوني، بل ككيان بيولوجي، شيءٌ يجب تحسينه لتحقيق الإنتاجية وطول العمر والنظام. تعمل السلطة الحيوية السياسية من خلال التحليل الإحصائي، حساب المخاطر، التخطيط الديموغرافي، وتصميم السياسات. وبالتالي، فإن موضوعات السياسة الحيوية هي "الحيوات البيولوجية"، أي الأجساد التي يجب الحفاظ عليها، تكثيرها، أو في بعض الحالات التضحية بها.




 

إن تقاطع السلطة التأديبية والسلطة الحيوية السياسية هو ما يمنح العسكرة شكلها الخاص في الدول التي تناولتها الورقة البحثية. ففي هذه السياقات، لا تكون الحرب مجرد مسألة قرار سيادي أو صراع عسكري. بل تعمل العسكرة كجهاز سياسي حيوي: فهي تؤدّب الأجساد على المستوى الجزئي، وتنظم السكان على المستوى الكلي. ويتجلى هذا المنطق المزدوج في برنامج الخدمة الوطنية في إريتريا، الذي يخضع فيه المواطنون من الذكور والإناث للتجنيد العسكري غير المحدد زمنياً.


من الخارج، قد يبدو هذا كأنه نظام تأديبي، لكن عند النظر من منظور سياسي حيوي، يتضح أنه مشروع هندسة سكانية: الدولة تشكّل دورة حياة مواطنيها بالكامل، تقرر متى يعملون، وأين يعيشون، وما المعرفة التي يتلقّونها، وما المستقبل الذي يمكنهم تخيله. هنا تصبح رؤية فوكو القائلة بأن "السلطة الحديثة لم تعد الحق في أخذ الحياة، بل السلطة على جعل الناس يعيشون وتركهم يموتون" مهمة جداً. فالحرب، في عصر السياسة الحيوية، لا تُشن باسم الفتح أو السيادة وحدها، بل باسم الحياة نفسها: لحماية السكان وتأمينهم والحفاظ عليهم. والمفارقة، كما يشير فوكو، هي أنه كلما استثمرت الأنظمة في إدارة الحياة، كلما ولّدت مستويات جديدة من الموت. فقد تصبح مجموعات كاملة قابلة للتخلص منها باسم الأمن القومي، التطهير العرقي، النظام الديني، أو السيطرة الديموغرافية. ولهذا، في الحرب السياسية الحيوية، تصبح المجازر أمراً حيوياً: إذ يُبيد السكان ليس كأعداء للحاكم، بل كتهديدات للصحة البيولوجية للأمة.


بهذا المعنى، لا تميّز السلطة التأديبية بين أجساد الذكور والإناث لأغراض قمعها، بل تميّزها فقط بقدر ما يمكن أن تجعلها مطيعة، وفعالة، وقابلة للحكم. إذاً، السؤال لا يتعلق بمجرد الأدوار الجندرية في الأنظمة المسلحة، بل بالتحوّل الأوسع للحياة الاجتماعية إلى آلة عسكرية، حيث يُتصوّر المجتمع نفسه ككائن منضبط وقابل للحكم. لا يمكن للنقد النسوي للعسكرة أن يظل محصوراً في قضايا التمثيل أو الوصول أو المساواة، بل يجب أن يتناول العقلانية الحكومية الكامنة التي تحوّل الحياة نفسها إلى موضوع حرب. لذلك، يجب على السياسة النسوية التي تتحدى العسكرة أن تتحدى أيضاً منطق السلطة نفسه الذي يجعل السكان قابلين للحكم، والأجساد قابلة للبرمجة، والحرب ممكنة التفكير كأداة للسلام.

 

فما هي إذاً الاستراتيجية النسوية المضادة؟ لا يمكن أن تكمن في مجرد عكس الأدوار الجندرية (مثل إدماج النساء في الجيش) أو في الدعوات الشكلية لنزع السلاح بعيداً عن النقد البنيوي. بل يجب أن تبدأ بتفكيك العقلانية المسلحة التي تجمع بين الانضباط، والمراقبة، والحياة. ويعني ذلك التساؤل عن كيفية تأطير السلام كأمن، وكيفية تحويل الرعاية إلى أداة قومية، وكيف أن تنظيم الحياة يصاحبه دائماً التخلي عن بعض الحيوات في حالة هشاشة أو موت. بعبارة أخرى، لا تقتصر المهمة على نزع الصفة العسكرية عن المؤسسات فحسب، بل تشمل أيضًا نزع الصفة العسكرية عن الخيال السياسي.

 

لذا، يجب أن يكون النضال النسوي ضد العسكرة، إنتاجياً بقدر ما هو نقدي. عليه أن يخترع طرقاً جديدة للوجود، والتواصل، وتنظيم الحياة التي تقاوم كلاً من شبكة الانضباط والحسابات السياسية الحيوية. يجب أن يستعيد الحياة ليس كشيء يُدار أو يُدافع عنه، بل كشيء يُعاش بطريقة مختلفة.


يمكنكم قراءة الورقة البحثية كاملة هنا وتابعوا صفحاتنا على مواقع التواصل الاجتماعي (@AndariyaMag) لمعرفة المزيد عن هذا التقرير.


يابسيرا جيتشو

يابسيرا طالب قانون في جامعة أديس أبابا، إثيوبيا. يسترشد مساعيه الفكرية بافتتان قوي وتأثر بالتقاليد الفلسفية القارية والحركات الطليعية للدادائية والسريالية في القرن العشرين. يجد الإلهام في أعمال عمالقة الأدب مثل دوستويفسكي، وماركيز دي ساد، وكافكا. ومنجذب بشكل خاص إلى الأدب الفرنسي والألماني والروسي. ويسعى من خلال استكشافاته متعددة التخصصات إلى تعميق فهمه للفكر الإنساني والتعبير الفني.