هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

تحذير من المحتوى وإخلاء مسؤولية: المحتوى التالي يتناول تجارب شخصية وحساسة . ندعوكم لقراءته بما ترونه مناسبًا. يمكنكم الاطلاع على إشعارنا التحريري الكامل هنا.

برزت مشاكل الصحة النفسية مؤخراً كأحد الأسباب الرئيسية للوفاة بين الشباب الأفريقي، ولا تزال تُهمل. (مصدر الصورة: مجلة بورغن)


لطالما كان تراثنا الاجتماعي مدفوعاً وموجَّهاً بتقاليد ومفاهيم الأجداد التي شكّلت أجيالنا لتصبح على ما هي عليه اليوم. وبفضل الأدوات التي تركها لنا من سبقونا، أصبحنا قادرين على تحديد هويتنا والنمو انطلاقاً من جذورنا. لكن، وكما هو الحال دائماً، فمع الخير يأتي جانب مظلم يختبئ في الظلال.


فعلى صعيد الثقافة والدين في شرق إفريقيا والمجتمعات الإفريقية عامةً، لطالما وُجدت محظورات (تابوهات) تحيط بموضوع الصحة النفسية. في الماضي، كان أجدادنا يغنون ويهتفون ويعزفون الموسيقى ويمارسون الألعاب، إضافة إلى تعزيز روابط الأسرة للحفاظ على صحة الروح والعقل. لكن بفعل الحداثة والرأسمالية، لم يعد الوصول إلى تلك الممارسات سهلاً كما كان من قبل. وللأسف، بسبب هذه الأيديولوجيات الحديثة، ظهرت وصمات اجتماعية كثيرة قائمة على النوع الاجتماعي والدين والثقافة، تمنع الأفراد من طلب المساعدة أو المشاركة في ورش الدعم النفسي الاجتماعي.


عادةً ما تنشأ الوصمة بسبب سوء الفهم والجهل ونقص الوعي بالأمراض النفسية والصدمات التي تؤثر على الأفراد بشكل شخصي، لأن التركيز في هذه المجتمعات غالباً ما يكون جماعياً وليس فردياً. تعتَبر الصحة النفسية مفهوماً اجتماعيَّ البناء، لذا فإن المجموعات الثقافية والدينية والعرقية المختلفة تمتلك طرقاً متباينة في فهمها وتحديد أنواع التدخلات المناسبة لها.


الصراعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية جعلت من الصعب الحفاظ على الحالة العقلية الصحية (مصدر الصورة: Atrium Health)


يمكن تعريف الصحة النفسية بسهولة بأنها حالة من الرفاه النفسي تمكّن الإنسان من مواجهة ضغوط الحياة، وتنمية قدراته، والتعلّم الجيد والعمل بكفاءة، والمساهمة في خدمة مجتمعه. إنها جزء لا يتجزأ من الصحة والرفاهية، تشكّل الأساس لقدرتنا الفردية والجماعية على اتخاذ القرارات وبناء العلاقات وتشكيل العالم الذي نعيش فيه.


تُعتَبَر الصحة النفسية حقاً أساسياً من حقوق الإنسان، وهي ضرورية للتنمية الشخصية والمجتمعية والاقتصادية والاجتماعية. ولا تقتصر الصحة النفسية على مجرد غياب الاضطرابات النفسية، بل توجد ضمن طيفٍ معقّد تختلف تجربته من شخص إلى آخر، بدرجات متفاوتة من الصعوبة والمعاناة، وقد تؤدي إلى نتائج اجتماعية وسريرية متباينة للغاية.

ويُطلَق على اختلال هذا التوازن مصطلح المرض النفسي، ومن أكثرها انتشاراً الاكتئاب والقلق، تليها اضطرابات أقل شيوعاً مثل الاضطراب ثنائي القطب، واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD)، وغيرها الكثير.


شهد عام 2019 واحدة من أعلى نسب الأزمات النفسية في التاريخ الحديث بسبب جائحة كوفيد-19؛ إذ كان شخص واحد من كل ثمانية أشخاص، أي نحو 970 مليون شخص حول العالم، يعانون من اضطراب نفسي، وكان القلق والاكتئاب أكثر الحالات شيوعاً. وفي عام 2020، ارتفع عدد المصابين بهذه الاضطرابات بشكل ملحوظ مرة أخرى خلال ذروة الجائحة والإغلاق الاجتماعي.


التحديات التي تواجه خدمات الصحة النفسية في شرق أفريقيا


كما تم التطرق إليه بإيجاز في بداية المقال، فإن أكبر تحدٍ يواجه الرعاية الصحية النفسية في شرق أفريقيا هو الوصمة والتمييز. وهذا أمر محزن بشكل خاص، إذ أنه بالرغم من كل الجهود المبذولة لزيادة الوعي حول الصحة النفسية، إلا أن الوصمة والتمييز ضد الأفراد المصابين بأمراض نفسية لا تزال شائعة في العديد من المجتمعات. فغالباً ما يؤدي ذلك إلى الإقصاء الاجتماعي وصعوبة الوصول إلى خدمات الرعاية والدعم النفسي.


على سبيل المثال، في أوغندا، كانت اضطرابات الصحة النفسية تُعتبر على نطاق واسع ناتجة عن قوى روحية خارجية، بما في ذلك القوى الشيطانية واللعنات والسحر. ويُستخدم مصطلح "أومولالو" للإشارة إلى الشخص الذي يعاني من تحديات نفسية، ويترجم حرفياً إلى "مجنون" أو "مختل عقلياً". تفسر المعتقدات المحلية حول الأسباب، والمصطلحات المحلية القوية، والوصمة الناتجة عنها جزئياً سبب تردد المصابين في طلب العلاج.


تشمل القضايا الأخرى أيضاً التسمية بالألقاب، والسخرية، والتوبيخ، وهي أمور شائعة جداً في مجتمعاتنا. هذا يقلل من قيمة الأشخاص المصابين بأمراض نفسية ويعيق غالباً وصولهم إلى العلاج. أحيانًا، يمكن أن تمنع معتقدات الشخص نفسه حول المرض النفسي من الاعتراف بحالته، أو طلب المساعدة، أو الالتزام بالعلاج، ويكون ذلك غالباً متأثراً بالخوف من النظرة السلبية الخارجية والتمييز من الأصدقاء والعائلة.


ومن التحديات الرئيسية الأخرى التي تواجه نظام رعاية الصحة العقلية في شرق إفريقيا هو نقص التمويل وكذلك محدودية الموارد المخصصة لعلاج الأمراض النفسية والبحث العلمي والتدريب. وهذا يخلق تحدياً كبيراً في تقديم الرعاية والدعم الكافي للأشخاص المحتاجين إلى خدمات الصحة النفسية. ويرتبط هذا أيضاً بنقص الموارد البشرية أو الخبراء المتخصصين في الرعاية النفسية. هناك نقص حاد في المتخصصين في الصحة النفسية، بما في ذلك الأطباء النفسيين وعلماء النفس والأخصائيين الاجتماعيين، في أجزاء عديدة من شرق أفريقيا، مما يصعّب توفير الرعاية الكافية للسكان، خصوصاً في المناطق الريفية والنائية. 


على سبيل المثال، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يوجد في أفريقيا متوسط 0.1 طبيب نفسي لكل 100,000 شخص. معظم الأشخاص المصابين بأمراض نفسية في شرق أفريقيا من المحتمل ألا يحصلوا أبداً على المساعدة المهنية.


الرعاية النفسية للأشخاص في أفريقيا جنوب الصحراء غير فعّالة، وغير كافية، وغير عادلة. تكاليف العلاج مرتفعة للغاية إلى الحد الذي يضطر فيه معظم الشباب في المنطقة للعيش مع اضطرابات نفسية غير معالجة أو اللجوء إلى القادة التقليديين أو الدينيين للعلاج.


خدمات الصحة النفسية القائمة على المجتمع يمكن أن تُحدث فرقاً كبيراً، لكن بسبب نقص البرامج مثل مجموعات الدعم والاستشارات، لا يزال معظم الناس مترددين في طلب المساعدة المهنية. المجتمعات التي تعاني أكبر الأضرار نتيجة نقص هذه الخدمات هي المناطق الريفية.


لا تزال الأطر القانونية والسياسية غير الكافية لدعم ضحايا الأمراض النفسية وحماية حقوقهم وضمان وصولهم إلى رعاية ودعم جودة مشكلة كبيرة في شرق أفريقيا، مما يجعل معظمهم "يعانون بصمت". على الرغم من وجود جهود لإصلاح سياسات وقوانين الصحة النفسية، إلا أن هناك الكثير مما يجب القيام به.


تتلقى النساء في إحدى قرى شمال تنزانيا تعليماً حول الأمراض العقلية وطرق التعامل معها (مصدر الصورة: المنتدى الاقتصادي العالمي)


نظراً لأن معظم المجتمعات في شرق أفريقيا تتميز بالطابع الاجتماعي والتعاوني، يجب تقديم خدمات الصحة النفسية وتوصيلها بطريقة جماعية مع ترك مساحة للتركيز على الفرد عند الحاجة. هذا من شأنه أن يخفف التوتر والوصمة المرتبطة بطلب المساعدة المهنية. يعتمد مستقبل الرعاية الصحية النفسية على قوانين واعية ثقافياً تحمي حقوق المجتمع ولا تنزع منه هويته، مع ضمان تقديم العلاج للأفراد.


ينبغي حفظ سجلات عدد الأشخاص الذين يتلقون العلاج من الأمراض النفسية ضمن نظام إدارة الصحة، مما سيدعم صانعي السياسات في اتخاذ القرارات، بما في ذلك وزارات المالية فيما يتعلق بتخصيص الميزانيات.


إهمال الصحة النفسية سيجعل من الصعب تحقيق العديد من أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالفقر، وفيروس نقص المناعة البشرية، والملاريا، وتمكين المرأة، والتعليم في شرق أفريقيا، نظراً لأن جميع هذه الجوانب مترابطة ولا يمكن فصلها عن الصحة النفسية المجتمعية. تحسين الصحة النفسية يعد وسيلة لإطلاق الإمكانات التنموية، وهو حلقة مهملة في سلسلة التنمية في أفريقيا. الاستثمار في هذا القطاع يعني تعزيز القدرة على الصمود في المجتمع الشرقي الإفريقي. الصحة النفسية هي وسيلة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وهدف مهم في حد ذاته.


كيلفن إنوسنت مسيكا

كيلفن صانع محتوى مقيم في دار السلام بتنزانيا وقد بدأ شغفه بالكتابة في سن مبكرة. عمل سابقًا كطاهٍ قبل أن يغامر في مجال العقارات. يستمتع كيلفن بإنشاء محتوى خاص بالسفر ونمط الحياة بالإضافة إلى نصائح حول علم النفس على قناته على اليوتيوب.