تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا.
الزواج القسري هو أي زواج يحدث دون موافقة تامة وحرة من أحد الطرفين أو من الطرفين معاً، وحين لا تتوفر لدى أحد الطرفين أو الطرفين معاً القدرة على إنهاء الزواج أو الانفصال عنه، بسبب الإكراه أو الضغط الاجتماعي أو الأسري الشديد.
ينتشر زواج الأطفال على نطاق واسع في أوقات الحروب بسبب الاعتقاد بأن الآباء بذلك يحمون بناتهم من الاغتصاب ويحافظون على شرفهن. استناداً إلى تقرير السودان الصادر في أبريل 2024 عن وكالة اللجوء التابعة للاتحاد الأوروبي، تتزايد حالات الزواج القسري للفتيات والنساء من قبل أعضاء قوات الدعم السريع، مع وجود حالات تُظهر قيام الآباء بتسليم بناتهم تحت التهديد.
كل عام، تُحرم 15 مليون فتاة من عيش حياتها . المصدر: CAMFED.org
إحصائيات
تشير الإحصائيات الرسمية حول الزواج المبكر في السودان، والذي يعد شكلاً من أشكال الزواج القسري حيث يتم غالباً دون موافقة حرة وواعية من الفتاة، إلى بيانات تعود لما قبل الحرب، فقد أظهرت بيانات اليونيسف أن 1.9 مليون فتاة تزوجن قبل سن 15 بنسبة 12%، وأن 5.1 مليون فتاة تزوجن قبل سن 18 بنسبة 34%.
بعد اندلاع الحرب في أبريل 2023 سجلت التقارير زيادة كبيرة في حالات الزواج القسري نتيجة الفقر والنزوح وانهيار الخدمات. وأشار صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى تفشي الزواج المبكر كوسيلة للبقاء في ظل الأزمة. كما ذكرت منظمة الإغاثة الإسلامية أن 93% من الأسر فقدت مصادر دخلها، مما دفعها لتزويج بناتها.
وثقت وكالة اللجوء الأوروبية توسع ظاهرة الزواج المبكر كوسيلة لحماية الفتيات من العنف الجنسي. وغلى الرغم من عدم توفر نسب دقيقة حديثة، تؤكد المؤشرات النوعية تفاقم الظاهرة بعد الحرب.
وبحسب لجنة التحقيق في جرائم وانتهاكات القانون الوطني والقانون الدولي الإنساني، تم تسجيل 1392 حالة من العنف الجنسي والاغتصاب الجماعي والزواج القسري. غير أن هذه الحالات تمثل فقط أقل من 2% مما يعتقد الأخصائيون أنه العدد الحقيقي للانتهاكات، مما يشير إلى أن العدد الفعلي لحالات الزواج القسري والانتهاكات المرتبطة به قد تجاوز 69,000 حالة، وذلك بسبب امتناع الضحايا عن التبليغ نتيجة الخوف من الوصمة الاجتماعية.
وفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، شهدت البلاد زيادة بنسبة 280% في عدد الناجيات اللائي يسعين للحصول على خدمات العنف القائم على النوع الاجتماعي.
الزواج القسري من أكثر أنواع العنف المبني على النوع الاجتماعي شيوعاً، استناداً على تحليل التواتر 2014، المصدر:UNICEF
السيطرة أولاً ثم الزواج القسري
بعد اجتياح أي منطقة، تُثبّت قوات الدعم السريع وجودها عسكرياً، ثم تفرض الزواج القسري على النساء والفتيات.
تكشف التقارير من دارفور والخرطوم والجزيرة عن نمط ممنهج، لا فردي، يتم فيه فرض الزواج تحت التهديد، وغالباً ما يكون المهر جماعياً بين عدة مقاتلين. هذا الزواج ليس علاقة اجتماعية، بل هو سلاح يستخدمه المقاتلون لترسيخ وجودهم القسري وتحويل أجساد النساء إلى أدوات لإعادة تشكيل المجتمعات من الداخل. إنه عنف جنسي منظم يُغلف تحت عباءة السترة، لكنه في جوهره شكل من أشكال الاسترقاق.
اغتصاب مقنن
في إحدى قرى شمال ولاية كردفان، نجت منى (التي طلبت مني التحفظ على هويتها الحقيقة)، وهي فتاة تبلغ من العمر 17 عاماً، من انتهاك مغلّف في غطاء الزواج . بدأت القصة عندما لاحقها أحد أفراد قوات الدعم السريع أثناء عودتها من السوق، ثم تبِعها إلى المنزل وطلب من والدتها تزويجها له. كانت الأم تقيم في منزل صغير مع منى وثلاثة أطفال آخرين، وخافت من بطش الجندي، فوافقت على الزواج خوفاً على ابنتها من الاغتصاب.
بعد عقد القران، اكتشفت منى الحقيقة الصادمة: اثنان آخران من أفراد الدعم السريع شاركا في دفع المهر. قال لها أحدهم بوضوح: "تزوجناك نحن الثلاثة". صُدمت منى، وفهمت أنها لم تكن سوى ضحية لجريمة اغتصاب مغطاة بشرعية زائفة. طلبت منى أن تذهب إلى غرفتها للحظة، ثم هربت من الباب الخلفي وأخبرت والدتها بما حدث. تصرفت الأم بسرعة، وأخفت ابنتها عند الجيران. وعندما عاد أحد الجنود للبحث عنها، أنكرت الأم رؤيتها، وانفجرت باكية، وهددته بأنها ستبلغ قائد المنطقة بأنه قتل ابنتها أو اختطفها. جمعت الأم أطفالها وبينهم منى، و غادرت القرية لمنطقة أخرى آمنة نسبياً.
بين الرغبة في الحماية و الاستسلام الواقع
خنساء (اسم مستعار)، فتاة تبلغ من العمر 21 عاماً، كانت تدرس في جامعة الخرطوم، ووالداها معلمان معروفان في الحي. بعد نزوح الأسرة إلى سنار هرباً من الخرطوم، أجبرها والدها على الزواج قسراً من صديق والدها الذي يكبرها كثيراً، خوفاً من اختطافها أو الاعتداء عليها من قبل قوات الدعم السريع المنتشرة في المنطقة. تقول والدة خنساء:" زوجناها حفاطاً عليها من الدعم السريع ، حتى وإن كان من دون أرادتها".
الزواج القسري قائم على الاجبار، المصدر: صحيفة عكاظ
فجوة في القانون
الزواج القسري ليس جديداً في السودان، بل له جذور في زمن السلم، وهو ما يفسر التساهل المجتمعي والرسمي معه في زمن الحرب. فبينما تُجرّم القوانين الدولية هذا النوع من الزواج وتعتبره جريمة حرب، لا يزال القانون السوداني عاجزاً عن منعه أو مساءلة مرتكبيه. المادة 34 من قانون الأحوال الشخصية لعام 1991 تشترط موافقة المرأة على الزواج، لكنها تسمح لولي أمرها بعقد القِران وطلب موافقتها لاحقاً، ولا يُعد رفض المرأة كافياً لإبطال الزواج.
رغم وجود العديد من الاتفاقيات الدولية – مثل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) – التي تشترط الرضا الحر والكامل للطرفين لعقد الزواج، إلا أن الجرائم المتعلقة بالزواج القسري لا تزال غير معترف بها كجرائم مستقلة في القانون الدولي الإنساني. ففي معظم الحالات، تُدرج هذه الجرائم ضمن فئات عامة مثل الأفعال اللا إنسانية، مما يعقّد عملية المحاسبة، ويبعد الضحايا عن مسار العدالة.
وعلى المستوى المحلي، فإن العديد من الدول التي تشهد نزاعات – كالسودان واليمن – لا تمتلك تشريعات تضع حداً أدنى صارماً لسن الزواج أو تجرّم الزواج القسري بشكل صريح. في السودان، لا يحدد القانون حداً أدنى قانونياً واضحاً لسن الزواج، ويجيز تزويج الفتيات في سن العاشرة، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام تحويل الزواج القسري إلى ممارسة قانونية، رغم أنه في جوهره جريمة بحق الطفولة والكرامة الإنسانية.
صورة تدلل على الفجوة في القانون، المصدر: براءة محمد
الزواج القسري في الدول العربية التي تشهد نزاعات
في سوريا، ارتكبت الجماعات المسلحة انتهاكات جسيمة تمثلت في تزويج الفتيات قسرًا تحت مسمى الحماية، ونقلهن قسرًا إلى مناطق سيطرتها، حيث تعرضن للبيع والإهداء والتزويج الإجباري.
في العراق، استخدم تنظيم داعش الزواج القسري كسلاح حرب، حيث اختطف الفتيات، وفرض عليهن الزواج من مقاتليه، مع توثيق حالات بيعهن في أسواق إلكترونية.
أما في اليمن، فقد أدى غياب قانون يحدد سن الزواج إلى انتشار الزواج القسري، خاصة في المناطق المتأثرة بالنزاع، حيث استغلت الجماعات المسلحة الفقر والفراغ القانوني لتزويج الفتيات دون رضاهن.
دعم الضحايا أولوية
في خضم الحرب والانهيار، تقف النساء والفتيات ضحايا الزواج القسري وحدهن في وجه صدمة عميقة وآثار جسدية ونفسية مدمرة. ولهذا، فإن توفير الدعم النفسي والاجتماعي لهن يجب أن يكون في صدارة أولويات الجهات الإنسانية. فالمساعدة لا تقتصر على الإيواء والرعاية الطبية، بل تمتد لتشمل التعافي النفسي، والدعم القانوني، وإتاحة خيارات إنسانية وآمنة للنساء اللاتي حملن قسرًا.
بعض المنظمات مثل Plan International، ومنظمة “معاً ضد الاغتصاب و العنف الجنسي”، قامت بتسليط الضوء على خطورة الزواج القسري، وتقديم أشكال من الدعم للضحايا رغم القيود المفروضة، لكن تبقى الحاجة قائمة لتوسيع هذه المبادرات وتسهيل وصول المساعدات دون عراقيل عسكرية أو بيروقراطية.
ختاماً، يلجأ العديد من الأسر النازحة أو المقيمة في المناطق التي تحتلها قوات الدعم السريع، أو تلك التي تواجه تهديدات مباشرة بالهجوم، إلى الزواج القسري كوسيلة أخيرة لحماية بناتهم من العنف أو الاغتصاب أو للتهرب من الوصمة الاجتماعية، رغم أن هذا الخيار لا يحقق الأمان الحقيقي، بل يزيد من معاناة الفتيات ويحول أجسادهن إلى ساحة أخرى من الانتهاكات. إن الزواج القسري في زمن الحرب ليس سوى استمرار للعنف الممنهج، ويتطلب التصدي له جهوداً متكاملة من المجتمع الدولي والمحلي، تشمل التشريعات الحازمة، والدعم النفسي والاجتماعي، وحماية حقوق المرأة والطفل، لكي لا تبقى الفتيات والنساء رهائن لهذه الظروف القاسية ولا يتكرر استغلالهن كأدوات في نزاعات مستمرة.