هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

مقدمة


وفقاً لتقرير حديث نشرته وكالة الأنباء الإثيوبية عام 2025، فإن 54٪ فقط من سكان البلاد يحصلون على خدمة الكهرباء، ما يترك أكثر من 55 مليون شخص يعتمدون على مصادر الطاقة التقليدية لتلبية احتياجاتهم. وبالنسبة لبلد يمتلك ثاني أكبر تعداد سكاني في القارة ويُصنَّف ضمن أسرع الاقتصادات نمواً في إفريقيا، فإن هذا الوضع يظل عبئاً ثقيلاً، إذ يرتبط التطور الاقتصادي ارتباطاً مباشراً بالطاقة.


لقد كانت الطاقة الكهرومائية هي المصدر الأكثر جدوى وتوافراً أمام إثيوبيا لتلبية احتياجات سكانها، وكانت الوسيلة لتحقيق ذلك واضحة: بناء سد ضخم على نهر النيل لحسم مسألة الكهرباء مرة واحدة وإلى الأبد، وهو سدّ النهضة الإثيوبي العظيم ويُشار إليه فيما بعد بسد النهضة. لكن فكرة بناء سد على النيل ليست جديدة؛ فقد طُرحت لأول مرة في الخمسينيات على يد الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي الذي أعلن حق بلاده في استخدام مياه النيل دون الإضرار بالدول المجاورة المعتمدة عليه.


ورغم المعارضة من مصر والسودان، كان الراحل رئيس الوزراء ميليس زيناوي هو من أطلق رسمياً مشروع بناء السد عام 2011، بينما قام رئيس الوزراء آبي أحمد، بحضور قادة أفارقة من بينهم رؤساء كينيا وجنوب السودان والصومال وجيبوتي، بإحياء ذكرى اكتمال بناء سدّ النهضة في 14 سبتمبر 2025 بعد 14 عاماً من بدء العمل فيه.


رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد يتحدث خلال حفل توليد الطاقة الأول في موقع سد النهضة الإثيوبي الكبير (GERD) في جوبا، إثيوبيا. المصدر: الجزيرة.


ما بدا لكثيرٍ من الإثيوبيين مجرّد سراب بعيد أو أملٍ معلّق أصبح واقعاً عند اكتمال السد، وجعل كثيرين يتخيّلون مستقبلاً تُلبّى فيه أخيراً الحاجة الأساسية للكهرباء. ومع ذلك، وسط هذا الحماس الجارف، أود أن ألفت انتباه القارئ إلى ضرورة التفكير في احتياجاته غير الملباة، ليس بمعزل عن غيرها، بل ضمن سياق أوسع يشمل الاحتياجات الاقتصادية الأخرى. حياتنا مليئة بصراعٍ دائم بين تلبية حاجاتنا العاجلة وطموحاتنا البعيدة، ومن واجب الحكومة أن تتدخّل لتوفير الموارد بشكل عادل يتيح لكل فرد أن يعمل على تخفيف أعبائه.


تُعدّ المشاريع الضخمة مثل سدّ النهضة من المبادرات التي تتولاها الحكومة على أمل إزالة العقبات الفاصلة بين مطالب الناس والوسائل التي تمكّنهم من تحقيقها. لكن إن تحوّلت هذه المشاريع لخدمة أهداف أخرى غير الغاية المعلنة، يصبح من الضرورة بمكان أن يتحلّى الجمهور بدرجة أكبر من الحذر تجاهها. ولذلك، ما دمتُ سأقدّم أدلّة كافية على ذلك، فإنني أدعو القرّاء إلى تبنّي قدر من الحذر أيضاً تجاه سدّ النهضة. وفي الأقسام اللاحقة، سأحاول بيان الأسباب التي تجعل هذا الريبة مبرّرة، وكيف تنبع من مشاعر السخط الناتجة عن تدهور أحوال المعيشة لدى المواطنين العاديين، وهو تدهور لم تفعل هذه المشاريع شيئاً يُذكر لدرئه أو منعه.


كما سأُبرز السبب وراء العجز عن التوحد في مواجهة الهيمنة المطلقة للمؤسسة السياسية، والحاجة إلى إعادة صياغة الساحة السياسية. إن استدعاء الحكومة للمشاعر الوطنية لا يؤدي إلا إلى تشتيت انتباه الجمهور وإبعاده عن مواجهة واقعه الاقتصادي الفعلي، ولا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا بإعادة بناء فضاء سياسي يفتح الطريق لشكلٍ جديد وجذري من الديمقراطية قادرٍ على معالجة الوضع الخاص الذي نعيشه اليوم.



يرتكز الإطار التحليلي لهذه الدراسة على نظرية السياسة الراديكالية الشعبوية التي طوّرها إرنستو لاكلو وشانتال موف. الهدف ليس مجرد وصف الوضع السياسي الراهن، بل البحث في كيفية صياغة المطالب الاجتماعية والسياسية المتنوعة ضمن شبكة واحدة تُنتج هوية جماعية مشتركة. فمن خلال دراسة كيفية ربط المظالم والتطلعات المختلفة عبر جماعات متعددة، تسعى الدراسة إلى إظهار الكيفية التي يمكن أن تنشأ بها جبهة سياسية موحّدة في مواجهة المؤسسة القائمة، جبهة قادرة على إنتاج تغيير جذري ومستدام.


إرنستو لاكلو وشانتال موف هما مفكران سياسيان أرجنتينيان عُرفا بإعادة تصوّر الكيفية التي تتشكّل بها الهويات الجماعية في السياسة الحديثة. فحسب رؤيتهما، لا تتجمع المجموعات البشرية فقط لأنها تتقاسم الخلفية نفسها أو المصالح ذاتها، بل لأنها تتعلّم صياغة نضالاتها المختلفة كجزء من صراع أكبر مشترك. وتأتي أهمية هذا المنظور هنا لأنه يفسّر كيف يمكن للمظالم المتناثرة عبر المجتمع أن تُربط معاً لتشكّل حركة أوسع وأكثر تماسكاً. وبعبارة أخرى، تقدّم هذه النظرية طريقة لفهم كيف يمكن لأولئك الذين يشعرون بالتهميش أو الإقصاء أن يحوّلوا هذا الشعور إلى صوت سياسي مشترك بما يكفي لتحدّي مَن هم في السلطة.


 سد النهضة في سياقه العام


لا شكّ أن سدّ النهضة يمتلك القدرة على إحداث تحوّل جذري في الوضع الاقتصادي للبلاد. فهو أكبر سدّ في القارة الإفريقية، ومن المتوقع أن ينتج 5,150 ميغاواط، إضافةً إلى قدرة على رفد الاقتصاد بما يقارب مليار دولار أمريكي من العائدات. ويُعدّ ذلك إنجازاً ضخماً لإثيوبيا، لا سيما أنّ تمويل بناء السد جاء من تبرعات محلية ومن الجاليات في الخارج، ومن برامج السندات الحكومية، في غياب أي دعم خارجي.


علاوة على ذلك، هناك علاقة مباشرة بين التنمية الاقتصادية والطاقة. فمن دون مصدر طاقة مستدام وكافٍ، لن تكون هناك مستشفيات قادرة على إجراء العمليات الطبية الأساسية، ولا مصانع لإنتاج المواد والمعدات، ولا شركاتٍ تعمل بكفاءة، ولا حياة صحية تتيح الطهو والتدفئة والإنارة للقيام بالأنشطة اليومية. إن غياب الكهرباء يحرم الناس من فرصة تحسين حياتهم وانتشال أنفسهم من الفقر. ولتحقيق الحقوق الاقتصادية الأساسية المنصوص عليها في الدستور، لا بدّ من ضمان وصول الكهرباء إلى كل ركن من أركان البلاد.


ورغم ضرورة تلبية هذا الطلب، لا يزال 80% من السكان الذين يعيشون في المناطق الريفية يعتمدون على الحطب والفحم وروث الحيوانات والغاز بدلاً من الكهرباء لأغراض الإنارة. ونتيجة لذلك، يصبح تشغيل المعدات الطبية الحديثة في المستشفيات أمراً مستحيلاً، ويصعب توفير تعليم ذي جودة للطلاب، فضلاً عن التحدّيات التي تواجه حتى أبسط الأنشطة اليومية.


ومع بناء سدّ النهضة وبقدرته المركّبة البالغة 5,150 ميغاواط، ستتضاعف القدرة الإنتاجية للطاقة على المستوى الوطني، والتي تبلغ اليوم حوالي 5,200 ميغاواط وفق تقارير إدارة التجارة الدولية، مما يتيح إنتاجاً كافياً لتغطية احتياجات البلاد كاملة، بل وخلق فائض يمكن تصديره إلى السودان وكينيا وجيبوتي وتنزانيا.


صورة مأخوذة بواسطة طائرة بدون طيار لسد النهضة الإثيوبي تظهر موقع البناء بالكامل إلى جانب المياه المحتجزة. المصدر: وكالة الأنباء الإثيوبية.


ومع ذلك، فإن مثل هذا المشروع العملاق لم يمرّ دون أن يثير الانتباه. بل على العكس، فقد أشعل جدلاً جيوسياسياً واسعاً بين دولة المنبع، إثيوبيا، من جهة، ودولتي المصب، السودان ومصر، من جهة أخرى، وذلك طوال مرحلة بناء السد وما بعدها. وقد دأبت الدولتان الأخيرتان على الاحتجاج، سواء على إنشاء السد أو على طريقة تشغيله، مؤكدتين أن تدفّق المياه الضروري لاستدامة بلديهما سيتأثر بشدة. وإضافة إلى ذلك، تجادلان بوجود اتفاقيات دولية، مثل اتفاقية تقاسم مياه النيل المبرمة بين بريطانيا ومصر عام 1929، والاتفاقية المشتقة عنها والموقعة عام 1959 بين مصر والسودان، والتي تمنح حق الاستخدام الحصري لمياه النيل، وتشترط موافقة الدولتين على إنشاء السد.


وفي المقابل، عارضت إثيوبيا هذه الادعاءات بشدة، مؤكدة حقها السيادي في استخدام المياه لتحقيق أجندتها التنموية، ورافضة الالتزام بأي اتفاقيات أُبرمت في الحقبة الاستعمارية ولم تكن طرفاً فيها. غير أنه، ومع الإقرار بأهمية هذه القضايا وضرورة مناقشتها، أودّ تناولها من منظور آخر، وتقديم نقدي المباشر.


هنا، أجادل بأن من الضروري طرح السؤال الذي يهم الغالبية العظمى من سكان البلاد. ففي الفترة التي أعقبت سقوط النظام الملكي، تذبذب الخطاب السياسي السائد بين فئتي الطبقة والعرق. ومع وصول الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية الإثيوبية إلى السلطة بعد الإطاحة بنظام ديرغ، أُعيد تشكيل الحقل السياسي على أسس عرقية، بما أفرز هويات أُسندت إليها السيادة المطلقة، كما لو كانت تلك الهويات معطيات عضوية وطبيعية، كانت علاقتها التناحرية بالأنظمة الحاكمة السابقة محجوبة بفعل السيطرة الأيديولوجية الملكية والشيوعية. لكن، ولكن، الآن وقد تحرّرت هذه الهويات العرقية وعادت إلى مكانتها الأصلية، يبدو أن العداء قد انتهى "أخيراً".


ومن ناحية أخرى، نشهد اليوم تصاعداً في الشعبوية القومية اليمينية داخل المؤسسة السياسية للقيادة الحالية، لا بهدف استدعاء دولة مفقودة يتعين على إثيوبيا العودة إليها، بل من أجل استحضار دولة “مزدهرة” كان من المفترض أن تبلغها إثيوبيا لولا عرقلة “الآخر”، سواء كان إريتريا أو مصر أو الصومال أو الهيمنة الغربية للقوى العظمى. وقد أكدت المؤسسة السياسية مراراً وتكراراً أن المشاريع التي شرعت فيها و«أنجزتها» قادرة على خلق إثيوبيا مكتفية ذاتياً وذات سيادة. غير أنني أرى أن مثل هذه الادعاءات ينبغي التعامل معها بحذر شديد، نظراً لأن المشاريع العملاقة التي تبنّتها المؤسسة السياسية تشير إلى عكس ذلك فيما يتعلق بتحسين الأوضاع الاقتصادية للفقراء والطبقة العاملة في إثيوبيا.


فالبلاد تتسم بتفاوت كبير في الدخل بين المواطنين، ومستويات مذهلة من الفقر، يعود جزء منها إلى سوء الإدارة وجزء آخر إلى الحروب، فضلاً عن ارتفاع معدلات البطالة. أما المشاريع العملاقة التي أُطلقت حتى الآن، فلم يكن لها تأثير يُذكر في معالجة هذه المعضلة، إن لم تكن قد أسهمت في تفاقمها.


لماذا كل هذا الارتياب؟

منذ عام 2018، شرعت حكومة حزب الازدهار بقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد في تنفيذ أجندة واسعة للتحديث القائم على البنية التحتية. وقد صيغ الخطاب المحيط بهذه الدفعة التنموية الجديدة في إطار وعد «الازدهار»، حيث قُدِّمت المشاريع العملاقة بوصفها الدليل المادي على قدرة الدولة وتقدمها. وروّجت الحكومة لفكرة أن المشاريع الكبرى في مجالات الطاقة والصناعة والنقل والإسكان وإعادة تطوير المدن من شأنها أن تدفع إثيوبيا نحو مصاف الدول متوسطة الدخل، وأن تخلق ملايين فرص العمل، وأن تعمّم ثمار النمو على المواطنين العاديين.


وقد ورث حزب الازدهار برامج بنية تحتية جارية من الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية للشعب الإثيوبي، إلى جانب إطلاقه برامجه الخاصة. ومن بين هذه البرامج، تبرز المناطق الصناعية، ومشاريع الإسكان الحضري، ومشروع تشاكا، ومبادرة ممرات مدينة أديس أبابا، ومشروع جورجورا السياحي، فضلاً عن الاستثمارات في قطاعي الطاقة والصناعة مثل سد كويشا ومصنع دانغوت للأسمدة، باعتبارها أبرز المشروعات التي تبلورت خلال فترة الإدارة الحالية.


ويمثل برنامج المناطق الصناعية أحد أبرز مكونات رؤية التصنيع الإثيوبية وضوحاً. فقد أُطلق هذا البرنامج خلال سنوات حكم الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي، ثم جرى توسيعه بصورة مكثفة في عهد حزب الازدهار عبر بناء وتشغيل مدن صناعية مثل بولي ليمي 2، وكيلينتو، وكومبولشا، وأداما. وقد جرى الترويج لهذه المدن الصناعية باعتبارها فرصاً لخلق الوظائف، تهدف إلى استيعاب الأعداد المتزايدة من الشباب الإثيوبي في أعمال مستقرة وموجّهة للتصدير.


غير أنه، وعلى الرغم من أنها أوجدت عشرات الآلاف من الوظائف على الورق، فإن جودة تلك الوظائف واستدامتها تظل موضع تساؤل كبير. فقد كشفت تقارير عديدة عن تدني الأجور إلى مستويات شديدة الانخفاض، وطول ساعات العمل، وسوء ظروفه، فضلاً عن فقدان جماعي للوظائف من قبل عمال لم يتمكنوا من تلبية تكاليف المعيشة الأساسية. وبالنسبة لمعظم العاملين، لم يترجم التوظيف الاسمي إلى تحسّن حقيقي في سبل العيش، إذ فاقت معدلات التضخم في أسعار الغذاء والسكن والنقل نمو الأجور بفارق كبير.


ومنذ تعليق استفادة إثيوبيا من قانون النمو والفرص الأفريقية (AGOA) في يناير 2022 من قبل إدارة بايدن، تكبّدت البلاد خسائر فادحة تمثلت في مغادرة 18 شركة أجنبية، وفقدان أكثر من 11,500 وظيفة، إضافة إلى تكبّد المدن الصناعية خسائر إجمالية في الإيرادات بلغت 45 مليون دولار أمريكي.


عمال النسيج ينظفون الأرضية في المنطقة الصناعية الواقعة في هواسا. المصدر: نيكول سوبيتشي لصالح بلومبيرغ.


يجسّد مشروع تشاكا في أديس أبابا رغبة حزب الازدهار في إحداث تحوّل حضري ذي طابع استعراضي ومرموق. وقد جرى تسويق المشروع على أنه «مدينة ذكية» و«منتجع غابي»، ليشمل مجمّعات سكنية فاخرة، وبحيرات اصطناعية، وغابات، وقصراً رئاسيا جديداً. وبميزانية يُقال إنها تتجاوز 500 مليار بر إثيوبي، أصبح المشروع رمزاً لشكلٍ لافت من الاستهلاك الذي ترعاه الدولة، أكثر من كونه استجابة حقيقية لحرمانٍ حضري قائم.


وقد رافق تنفيذ المشروع تهجير وإخلاء مجتمعات محلية، وإعادة تخصيص أراضٍ حضرية ذات قيمة عالية لمطوّرين مرتبطين بالدولة، ما يثير تساؤلات عميقة حول «أي حداثة» يسعى هذا المشروع إلى تمثيلها، ولصالح من. وبالنسبة لكثير من سكان أديس أبابا، تمثّل مثل هذه المشاريع نموذجاً لتنموية تُجمِّل المدينة لصالح النخب والسياح، بينما تجعلها أقل قابلية للعيش بالنسبة للفقراء من الطبقة العاملة، الذين يواجهون الإخلاء وارتفاع تكاليف المعيشة.


وينطبق نقدٌ مماثل على مشروع ممرات مدينة أديس أبابا، الذي صُمّم لتحديث العاصمة من خلال توسيع الطرق، وإنشاء ممرات للمشاة، وممرات حضرية ذات طابع جمالي. وعلى الرغم من تبريره باسم تقليل الازدحام وتحسين الكفاءة الحضرية، فقد ترتّب على المشروع هدم واسع للمساكن غير النظامية وتهجير صغار التجّار. وقد أسفر ذلك عن اضطراب اقتصادي أصاب الأسر ذات الدخل المحدود والباعة الجائلين، ما فاقم البطالة الحضرية ووسّع فجوة اللامساواة. وبالنسبة للسكان المتضررين، لم تعنِ «تجميل» المدينة سوى الإقصاء وفقدان سبل العيش.

ممر مكسيكو-ساربيت الذي تم إنجازه مؤخراً، والذي تم تطويره ضمن مشروع تطوير الممرات في المدينة. المصدر: أديس ستاندرد


يُظهر ذلك أن هذه المشاريع أخفقت في تحقيق أهدافها الاجتماعية والاقتصادية الرئيسية. فبينما قد تبدو مظاهرها الخارجية وكأنها تجسّد طموحاً وطنياً، فإنها، من حيث النتائج الاقتصادية والتوزيعية، أسفرت عن عواقب وخيمة. فبدلاً من تقديم تخفيف ملموس لمعاناة الفقراء في المدن والطبقة العاملة في الريف، أسهم كثير من هذه المشاريع في تعميق اللامساواة، وزيادة الضغوط التضخمية، وتركيز الثروة والفرص في أيدي قلة من النخب المرتبطة سياسياً. وبذلك، عملت هذه المشاريع أقل بوصفها أدوات لتحوّل جماعي شامل، وأكثر كآليات لتراكم الثروة لدى النخب ولمشاهد الاستعراض السياسي.


وإذا كانت المشاريع الجاري تنفيذها تُبرز حدود استراتيجية التنمية القائمة في إثيوبيا، فإن الموجة الجديدة من المشاريع العملاقة المُعلَن عنها، مثل محطة الطاقة النووية المقترحة، ومصفاة النفط، ومنشآت الغاز الطبيعي، ومطار بيشوفتو العملاق الجديد، تكشف عن استمرار أكثر طموحاً، لكنه لا يقل إثارة للشك، للنموذج نفسه. فقد أُعلن عن هذه المشاريع في عام 2025 ضمن حزمة بنية تحتية بقيمة 30 مليار دولار، وبرّرتها الحكومة بوصفها ضرورية لتحقيق السيادة الوطنية، والاكتفاء الصناعي الذاتي، والتحديث التكنولوجي.


غير أن هذه المشاريع طُرحت للرأي العام في لحظة كانت البلاد فيها تعاني أصلاً من ضغوط شديدة، نتيجة ارتفاع الأسعار، وجمود الأجور، ونقص العملات الأجنبية، وتزايد الديون. إن الإعلان عن استثمارات بمليارات البرّ في خضم هذه الأوضاع يبدو تعبيراً عن غياب التخطيط الاقتصادي الرشيد. فبينما تقدّمها الحكومة على أنها مسارات نحو الازدهار، فإن غياب الموارد المالية الحقيقية لتنفيذها يعني أن تكلفتها تُحمَّل بهدوء على كاهل المواطنين العاديين عبر التضخم والضرائب الباهظة. لذا، يُثير توقيت هذه المشاريع وتمويلها الشكوك. فبدلاً من تخفيف الضغوط على الحياة اليومية، تُهدد هذه المشاريع بتفاقمها، تاركةً المواطنين بوعودٍ جوفاء بالتقدم، بينما يزداد الواقع المعيشي ثقلاً يوماً بعد يوم.


ما الذي ينبغي فعله؟ الديمقراطية الجذرية


وبيّنتُ، على النقيض من وعودها المتكررة بمعالجة الوضع الاقتصادي المتردي الذي يواجهه الفقراء والطبقة العاملة في إثيوبيا يوميًا، كيف أخفقت في ذلك. لذا، يُطرح السؤال: ما العمل؟ ما العمل حين تتجاهل المؤسسة السياسية وتتنصل من مظالم ومعاناة عامة الناس؟ 


لكي يُترجم هذا المطلب إلى نضال سياسي فعّال، لا بد من إعادة صياغة المجال الاجتماعي والسياسي. غير أن المجال السياسي قد جرى بالفعل تنظيمه وصياغته عبر تحديد مواقع الفاعلين وفق فئات عرقية. ومن هنا، فإن الديمقراطية الشعبوية الجذرية الحقة ينبغي أن تبدأ بجمع النضالات اليومية التي يعيشها الناس فعلاً: كالسعي إلى إيجاد عمل، والعجز عن دفع الرسوم المدرسية، والعيادات الصحية البعيدة أو المكلفة، وارتفاع أسعار الغذاء بوتيرة أسرع من الأجور. وبدلاً من التعامل مع هذه المعاناة بوصفها مشكلات معزولة، تسعى مثل هذه السياسة إلى إظهار الترابط بينها، وكيف تنبع جميعها من النظام السياسي والاقتصادي ذاته.


ولتحقيق ذلك، تعمل على خلق لغة مشتركة تربط بين هذه المطالب المختلفة، باستخدام مفردات توحيدية واسعة مثل «العدالة» أو «المساواة». فهذه المصطلحات تؤدي دور نقاط مرجعية مشتركة، يتعرّف من خلالها الأفراد إلى أنفسهم بوصفهم جزءاً من نضال واحد. وفي نظرية الشعبوية، يُعرف هذا التشكيل بما يُسمّى «سلسلة التكافؤ»، حيث تُربط المظالم المختلفة بعضها ببعض لتشكّل صوتاً جماعياً واحداً.


ولا تختفي الفوارق بين المشاركين في هذه العملية، سواء كانت قائمة على الإثنية أو النوع الاجتماعي أو الطبقة، اختفاءً تاماً. بل يجري تعليقها مؤقتاً من أجل تمكين الجميع من التعبير بصوت موحّد. وما يسمح بتشكّل هذه الوحدة هو استخدام «الدالّ الفارغ»، أي الكلمة أو الرمز الذي يتيح، بحكم انفتاحه، لمجموعات مختلفة أن تُسقِط عليه آمالها ومعانيها الخاصة. وبهذه الطريقة، يتكوّن «الشعب» سياسياً، لا لأن الجميع متماثلون، بل لأنهم يشتركون في الإحساس بأن المؤسسة الحاكمة نفسها قد خذلتهم.


وهنا تحديدًا يدخل عنصر التناحر، إذ لا يتشكّل «الشعب» السياسي الموحّد إلا حين تتبلور بوضوح الجهة التي يخوض ضدها نضاله. ففي حالتنا، تعمل الحكومة جاهدة على تقديم نفسها بوصفها متّحدة أصلًا مع الجمهور، من خلال الإشارة إلى تهديدات خارجية أو أعداء أجانب باعتبارهم «الآخر». وتسعى هذه السردية إلى إخفاء الانقسام الداخلي. غير أنه، ما إن تُزال هذه الصورة المصطنعة، حتى يظهر بوضوح التواجه بين جمهور يرزح تحت أعباء الحياة اليومية، من جهة، وطبقة سياسية تدّعي العمل باسمه، بينما تنتج في الوقت ذاته الشروط ذاتها التي تُبقيه عالقاً في دائرة المعاناة، من جهة أخرى.


ومن المهم إدراك أن وحدة «الشعب» ، أي الكيفية التي تلتقي بها المجموعات المختلفة، ليست أمراً طبيعياً أو معطًى مسبقاً ينتظر الاكتشاف. بل إن هذه الوحدة لا تنشأ إلا استجابةً لنضال مشترك ضد قضية جامعة. وما يربط هذه المجموعات ببعضها ليس إنجازاً مشتركاً بقدر ما هو إحباط مشترك، وشعور بما ينقصهم في حياتهم، بدءاً من ضعف الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية، مروراً بالبطالة، ووصولاً إلى ارتفاع الأسعار. وهذا النقص، لا المطالب الإيجابية أو المتحققة بالكامل، هو ما يشكّل أساس الصوت الجماعي.


وفي هذا السياق، تعمل كلمات مثل «العدالة» أو «المساواة» بوصفها نقاط تثبيت دلالية تتيح لأشخاص من خلفيات متنوعة، عرقية أو جندرية أو طبقية، أن يتوحّدوا تحت راية واحدة. ومن خلال الربط الاستراتيجي بين مظالمهم المختلفة في سردية مشتركة، تستطيع هذه المجموعات تحويل نضالات جزئية إلى مطلب كوني بالتغيير. وهي لا تبتكر لغة جديدة بالكامل، بل غالباً ما تعيد توظيف مفردات مستخدمة أصلاً في الخطاب العام، محوِّلة كلمات المؤسسة الحاكمة ذاتها إلى أدوات للمقاومة. وبهذه الطريقة، فإن ما يبدو كهوية جماعية عفوية ليس في الحقيقة سوى جبهة سياسية مُشيَّدة بعناية، نابعة من السخط، وتشكّلت عبر رموز مشتركة، لا من أي وحدة سابقة قائمة بين المجموعات الاجتماعية.


إن غاية السياسة الشعبوية هي التحرر، ولكن ليس بالمعنى الذي يفترض العودة إلى حالة طبيعية مثالية لم تمسّ، يُزعم أن الناس قد اغتربوا عنها. بل إنها تقوم على ما يمكن تسميته «وهم التحرر»، أي رؤية مشتركة للحرية والعدالة تكون قوية بما يكفي لحشد الناس في مواجهة المؤسسة السياسية. وهذه الرؤية ضرورية لأنها تتحدى السرديات المهيمنة التي تستخدمها الحكومة لتقديم نفسها بوصفها طبيعية وبديهية. وكما ذُكر، فإن دوالّ مثل «العدالة» أو «المساواة» تتيح ربط المظالم المتفرقة والمتنوعة بعضها ببعض. وعندما يوحّد الناس هذه المطالب تحت مفاهيم مشتركة، يصبح بإمكانهم تجاوز النضالات الفردية نحو مطلب سياسي جماعي أوسع. إنّ تسمية هذه المظالم وتحديدها يمنح الشعب مساحةً لبناء جبهة سياسية، حتى وإن ظلّ التحرر الكامل الموعود بعيد المنال. وبهذا المعنى، تعمل التعبئة الشعبوية على خلق صورة مشتركة للتحرر، تُقرّ مع ذلك بأنّ تحقيق الحرية الكاملة ليس إلاّ مؤقتاً.


ملاحظة أخيرة


في التحليل الختامي، أسعى إلى التأكيد على أن الوقت قد حان لصياغة وفهم «الشرط الاقتصادي» الذي يُقدَّم بوصفه محايداً على ما يبدو، وذلك في ضوء الشعبوية الديمقراطية الجذرية. ولتحقيق ذلك، لا بد من إخضاع الادعاءات التي تطلقها الحكومة بشأن مختلف المشاريع العملاقة التي يُفترض أن تُحوِّل البلاد، بما في ذلك سد النهضة الإثيوبي الكبير، إلى فحصٍ نقدي جاد.


إن المؤسسة السياسية تعمل على رفع مكانة سد النهضة، وكذلك في بعض الأحيان مسألة الوصول إلى البحر الأحمر، إلى مستوى رمزي، وتستخدمهما بوصفهما نواة تُنظَّم حولها الهوية القومية للشعب. وفي محاولة لتثبيت هذا النظام الرمزي وتحـييد التناحر الداخلي، قامت بخلق «الآخر»، الذي يتمثل في بعض الحالات في مصر، وفي حالات أخرى في إريتريا، باعتباره الجهة التي تعيق إثيوبيا عن تحقيق كامل إمكاناتها.


ونشهد التجلي الأقصى لهذه الشعبوية الزائفة في حالة الصراع مع إريتريا، حيث يؤكد رئيس الوزراء، إلى جانب مسؤولين عسكريين، أن إثيوبيا ستستعيد ميناء عَصَب بكل الوسائل الممكنة.


رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد علي في افتتاح البرلمان، 9 أكتوبر 2023. وبعد أيام قليلة، ألقى خطاباً في البرلمان أعلن فيه عزم إثيوبيا على تأمين ميناء ومنفذ بحري على البحر الأحمر. المصدر: مكتب رئيس الوزراء.


يُظهر ذلك مدى غفلة المؤسسة السياسية إزاء الأساس السلبي العميق الذي تقوم عليه، في محاولتها تأسيس هوية «وطنية» تبدو طبيعية وضرورية ومحايدة. فهي تغفل حقيقة أن السعي إلى تجاوز «الآخر» من أجل تحقيق مطلب سياسي قد يقود في نهاية المطاف إلى الهزيمة، لأن زوال الآخر يستتبع تدمير الهوية نفسها التي تنبثق من المطالب الداخلية.


وكما حاولنا توضيحه بالتفصيل في الأقسام السابقة، فطالما أن هناك تناحراً داخلياً يشكّل الذات ويطبعها بعدم الاكتمال، فإن العدو أو «الآخر» ليس سوى إسقاط خارجي للسلبية الكامنة في هذه الذات نفسها. ومع ذلك، تتقمّص المؤسسة السياسية دور المستجيب لمختلف المطالب التي أشرنا إليها، على الرغم من كونها في الأصل نتاج إخفاقاتها الإدارية، وكأن هذه المطالب ستختفي بمجرد توجيه العلاقة التناحرية نحو «الآخر»، وبمجرد كسر هيمنته المزعومة نهائياً.


ومن خلال هذا المسار، تعمل المؤسسة السياسية على حجب المصدر الحقيقي الذي انبثقت منه تلك المطالب منذ البداية، وتُخفي جذور الأزمة التي هي نفسها مسؤولة عن إنتاجها.


يابسيرا جيتشو

يابسيرا خريج قانون، وصحفي مستقل، وكاتب يتمتع بخلفية في الفلسفة والتحليل النفسي والفنون والأدب.