منذ بداية نشأتي، أو منذ أن بدأتُ أُدرك هويتي وأين أنتمي، كلما سألني أحد عن أصولي، كنت أردد هذه الكلمات: "أنا من دنقلا، محلية أرقو، دار العوضة". ولكن الحقيقة هي أنني لم أشعر يوماً بالانتماء إلى هذا المكان، وما كانت تلك الكلمات إلا شيئاً لُقِّن لي منذ صغري. كيف يمكنني أن أشعر بالانتماء إلى مكان لا يربطني به شيء؟ لم أولد فيه، لم أتربَّ فيه، لم أدرس فيه أي مرحلة دراسية، ولم أمكث فيه مدة من الزمن. ولكن شاءت الأقدار أن تحملني الأيام، وتُرجعني إلى أصولي، إلى موطني الأول.
كانت حرب أبريل 2023 سبباً في عودتي، واكتشافي لهذه البقعة الجغرافية التي وُلد فيها أبي، وعاش فيها أجزاء كثيرة من حياته. بدأتُ رحلتي في التعرّف على هذه الأرض من بيت جدي، الذي تُجاوره شجرة نيم كبيرة، وتحتها سرير جدي، رحمه الله. أجد باب البيت غير مغلق كعادته؛ بل لم يُغلق هذا الباب منذ أن تم تركيبه، لا هذا الباب الحديدي، ولا الباب الخشبي الذي سبقه. فمن عادات القرى أن لا تُغلق أبواب البيوت أبداً، مرحِّبة بالغريب قبل القريب. وإن سألتَ أحدهم: "لماذا لا تُغلق الأبواب؟"، يأتيك الرد: "نقفل الباب من منو؟ أهلنا؟!"
على عكس الخرطوم، المدينة التي عشتُ فيها أغلب مراحل حياتي، والتي تربط أغلب بيوتها علاقة جيرة فقط؛ أما هنا، فتربطك صلة القرابة والجيرة معاً، ليكون المجتمع أكثر ترابطاً وأُلفة. وللحقيقة، كنتُ مذهولاً وأنا أدخل بيت أقاربي وأهلي، بيتاً تلو الآخر، وشعرتُ بأن هذه القرية كلّها تنتمي إليّ، وأنا أنتمي إليها. وفي إحدى زياراتي إلى أحد البيوت، تصادفتُ مع إحدى جدّاتي، التي دعتنا إلى بيتها. مررنا بالطريق الذي لا تصل إليه أشعة الشمس؛ فقد كانت الأشجار الكثيفة من الجانبين تعطي للطريق رونقاً خاصاً به.
الأشجار الكثيفة على الجانبين تعطي الطريق رونقاً خاصاً به
جلسنا معها، وقدّمت لنا القهوة، أو كما تُسمى "الجبنة"، وكانت أفضل قهوة شربتُها في حياتي، بنكهتها الغنية، ورائحتها التي امتلأ بها الفضاء، واختلطت برائحة الحطب والهيل.
كوب القهوة الذي صاحب صنعه طقوس أرضت روحي وحاسة الشم الخاصة بي
بعدها، دعتني إلى "الجنينة"، أو كما أسميتها أنا: "الحديقة السريّة". الدخول إليها كان عبر بابٍ صغير، ضيّق، ومخفي تماماً، وكانت قمة في الجمال، بما تحتويه من أشجار الليمون، والبرتقال، والمانجو، وبالطبع الكثير من أشجار النخيل.
"الجنينة أو كما أسميتها "الحديقة السرية
كانت الروائح هناك مدهشة؛ عبير ثمار الحمضيات يمتزج برائحة الأرض الرطبة، وأنفاس الطبيعة النقية. الهواء كان عليلًا، والنسيم يداعب وجهي برفق، وكأنه يهمس لي بأسرار هذا المكان الذي لم تمسّه المدينة. ترك هذا المكان، خصيصًا، شيئًا في قلبي دون غيره من أماكن القرية.
لا أدري إن كان السبب هو الباب الصغير، أم كان جماله الخلّاب، أم الطريقة التي قدّمت بها جدّتي هذا المكان، وهي تُعرّفني على أنواع المزروعات بصوتها الذي كان يشعّ بالفخر والحب تجاه هذه الأرض.
تملأ ثمار الحمضيات المكان عبيراً فواحاً يربطك بالمكان
عند تجوّلي في الطرقات، مررتُ ببعض البيوت القديمة التي تركها أهلها كما هي، ولم تعد مستخدمة. كان تصميم تلك البيوت مميزًا بطريقة غريبة؛ فقد مرّ على وجودها سنوات عديدة، لكنها ما زالت راسخة في مكانها، شاهدةً على وجود أصحابها. فما زالت تُعرف بأسمائهم، وإن رحلوا، وصنعت بتفاصيلها الجمالية والأثرية ملامح خاصّة في القرية.
ظلت البيوت الشامخة شاهدة على حياة قاطنيها يومًا ما
كانت قريتنا، "دار العوضة"، تُعد من أكبر القرى في محلية أرقو، وأكثرها كثافةً سكانية. والمثير للاهتمام أن تسميتها بـ"دار العوضة" جاءت لأن أهلها تم تعويضهم بهذه المنطقة بعد أن أغرق النيل منطقتهم الأصلية في إحدى مناطق المحس، وتعود هذه القصة إلى زمنٍ بعيد جداً.
كانت الأجواء هادئةً للغاية، تبعث على السكينة، خالية من أصوات السيارات وزخم المدن. الحياة هنا بسيطة ودافئة، ومن خلال تلك البساطة تجلّى الجمال في كل تفاصيل القرية: من الأشخاص، إلى البيوت التي تحتضنهم، إلى الأشجار التي يجتمعون في ظلالها بعد صلاة العصر، حيث تتعالى أصوات ضحكاتهم ونقاشاتهم، في مشهدٍ يملأ القلب دفئًا وانتماءً.
أحببت روح القرية وكل ما فيها من طبيعة وحيوانات
"بدون الذاكرة، لا توجد علاقة حقيقية مع المكان" – محمود درويش
هذه الأيام التي قضيتها في قريتنا منحتني ذكريات ومشاعر حقيقية، ولّدت في داخلي شعورًا عميقًا بالانتماء إلى هذا المكان. أنا التي ظننتُ أن مثل هذه الأحاسيس لن تطرق باب قلبي مرة أخرى، بعد أن غادرتُ بيتي في الخرطوم مجبرة. فعلاً، بدون الذاكرة لا يمكن أن يُبنى أي رابط؛ وذكرياتي هنا جعلت هذا الرابط لا يُكسر، فأصبحت هذه الأرض جزءًا مني، وسكنت قلبي بلا استئذان.
لولا الحرب، لما تغيرت الصورة النمطية التي تكوّنت في مخيلتي عن هذا المكان. الحياة البسيطة، التي كانت تبدو مملة وروتينية وخالية من الحياة، جدّدت مشاعري بالحياة، وغيّرت منظوري حول إمكانية مكوثي فيه، مع أنها بدت فكرة مستحيلة من قبل. وجعلتني أدرك أن الوطن قد يتجسّد في وجودي مع عائلتي وأهلي وأصدقائي؛ فالأشخاص الذين يحيطون بنا هم حتمًا من يصنعون الوطن، وهم من يمنحوننا الشعور بالانتماء إلى مكانٍ ما.