تحذير من المحتوى وإخلاء مسؤولية: المحتوى التالي يتناول تجارب شخصية وحساسة. ما يرد من آراء يعبر عن وجهة نظر الكاتب، ولا يعكس بالضرورة مواقف منصة أندريا. ندعوكم لقراءته بما ترونه مناسبًا. يمكنكم الاطلاع على إشعارنا التحريري الكامل هنا.
تقع الخرطوم جغرافياً في وسط السودان، ومع ذلك لم تُعتبر يوماً جزءاً من "الإقليم المركزي" أو من أي من الأقاليم الإدارية المعروفة في البلاد. بل عوملت ككيان منفصل يتمتع بوضع خاص، لا ينتمي بالكامل إلى أي مكان رغم موقعه. ومن اللافت أن مصطلح "الأقاليم" كان في المخيلة العامة مقتصراً على المدن والمناطق خارج الخرطوم، ومع مرور الوقت اكتسب دلالات سلبية مثل التخلف أو النقص. لم يكن سكان الخرطوم يعرفون أنفسهم بأنهم "من الأقاليم"، بينما كان القادمون من الولايات الأخرى يُوسمون اجتماعياً بـ"أبناء الأقاليم".
الخرطوم قبل الحرب. المصدر: Humbo
وقد ساهمت الثقافة السائدة، ووسائل الإعلام، وأنظمة التعليم، وهياكل التوظيف في خلق تمثيلات اجتماعية وصور نمطية متراكبة وقوالب نمطية قائمة على هذا التصنيف. فغالباً ما ارتبط القادمون من الولايات الأخرى بالحاجة أو الطموح إلى الترقي الاجتماعي أو اللهجات المميزة، بينما احتفظت الخرطوم بصورتها كرمز للتحضر والتفوق الرمزي.
إن هذا التصور لـ"الإقليم" في الوعي الاجتماعي الجمعي يثير تساؤلاً مشابهاً لما طرحه جيل دولوز وتوماس نيل: ما الذي يجعل من الإقليم إقليماً؟ تكشف الأحاديث مع مجموعة صغيرة من سكان الخرطوم المولودين فيها أن الفضاء الجغرافي بخصائصه الثابتة لا يكفي لتعريف الإقليم فحسب؛ بل يتشكل عبر حركة الناس وممارساتهم وتصوراتهم التي تمنحه هوية ديناميكية ومتطورة. هذا المنظور يدعو إلى إعادة التفكير في الخرائط الاجتماعية باعتبارها تعبيراً عن وعي جماعي، لا مجرد انعكاس لحدود جغرافية ثابتة. ومن هنا تُفتح إمكانية إعادة تعريف الفضاءات الاجتماعية وإزاحة مركزية الخرطوم ونزع هالتها التفوقية، بحيث تُرى كإقليم آخر لا يتمتع بميزة جوهرية على غيره.
هذا الطرح الديناميكي يوضح كيف مثلت الخرطوم لعقود طويلة "السودان الرسمي"، بينما بقيت بقية البلاد في الظل، مهمشة أو يُنظر إليها فقط كمخزون بشري. فقد احتكرت العاصمة السلطة والثقافة والاقتصاد والتمثيل السياسي، مما خلق انطباعاً بأنها تملك البلد كله فيما يدور كل ما سواها في فلكها.
صورة لقاعة الصداقة بالخرطوم بعد حرقها وتدمير واجهتها خلال حرب أبريل 2023. (تصوير: السمؤال).
مع استمرار القتال في العاصمة، وما صاحبه من انهيار جزء كبير من بنيتها التحتية وانتشار مشاهد الموت والدمار، برزت موجة من الكتابات التي لم تركز فقط على الأبعاد الاستراتيجية للمدينة، بل أيضاً على رمزيتها وأهميتها التاريخية. وصفت عزة مصطفى الخرطوم بأنها "مدينة تحتل مكانة مركزية في قلوب وعقول معظم السودانيين"، مؤكدةً دورها كـ"مركز الثروة والسلطة" (CMI، 2023). وبالمثل، تقدم أميرة عثمان الخرطوم كمدينة تجسد الأمل السوداني وتعكس تطلعات الناس ونضالاتهم (WEF، 2023). تمثل هذه الكتابات، التي تناولت الخرطوم وتأثير الحرب عليها، تركيزاً غير مسبوق مقارنة بندرة التناول لتأثيرات الصراع المدمرة على مدن أخرى مثل الجزيرة أو نيالا، وهو ما يبرز مركزية الخرطوم في الذاكرة الجماعية السودانية.
صورة تظهر الدمار داخل مطار الخرطوم (التقطها السموءل).
تأتي هذه التأملات عند منعطف جديد أعقب اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، التي قلبت موازين القوة رأساً على عقب. ففي فترة وجيزة، سقطت المدينة التي طالما مثلت قلب الدولة ومركزها الرمزي. ووفقاً لتقديرات منظمة الأمم المتحدة للهجرة، فقد نزح داخلياً أكثر من 7.7 ملايين شخص داخل السودان، ولجأ 4.1 ملايين آخرين إلى الخارج منذ أبريل 2023، ما يجعلها أكبر أزمة نزوح في العالم (المنظمة الدولية للهجرة، 2025). وأُجبر مئات الآلاف على ترك منازلهم؛ أُغلقت المدارس، تحولت الشوارع إلى ساحات معارك، أضحت الأسواق ميادين للنهب، وانهارت البيوت تحت الركام. سقطت العاصمة بينما صعدت الولايات الأخرى بطرق لم يكن أحد ليتخيلها (The Guardian، 2025)
اندفعت موجات ضخمة من النازحين نحو مناطق وبلدات وقرى طالما عُدّت "أطرافاً" أو "الأقاليم". أصبحت مدن مثل ربك وسنار والأبيض والدمازين وكسلا وبورتسودان ومروي، وحتى بعض القرى في دارفور وجبال النوبة، ملاذات آمنة لسكّان الخرطوم الفارين. هذه التحركات قادت إلى تحولات اجتماعية عميقة لم تستوعبها الدولة بعد بشكل كامل، ولم تجد لها استجابة جادة حتى الآن.
ذكرت مجلة تايم أن أكثر من 600 "مركز إيواء" قد أُنشئت في مختلف أنحاء السودان لتوفير الغذاء والمأوى والرعاية الطبية والتعليم، مما يُمثل تعبئة إنسانية شعبية غير مسبوقة. غير أن ذكر هذه المراكز لا يحمل طابعاً احتفالياً، إذ إن وجودها يعكس واقعاً مؤلماً للأسر والأفراد الذين أُقتلِعوا من ديارهم. في ظهور مؤثر على منصة واكب، تحدّث الكوميديان المعروف عبدالسلام جلود بحزن عن فقدان معنى العيد داخل مركز الإيواء الذي يقيم فيه الآن بمدينة بورتسودان. لكنه أشار أيضاً إلى دفء سكان المدينة وكيف وفّرت المجتمعات الشرقية للنازحين سُبل الاحتفال رغم خسائرهم. ومع ذلك، يتجاوز دور هذه المراكز مجرد تقديم المساعدة، إذ باتت تتحول بشكل متزايد إلى فضاءات للتفاعل بين نازحي الخرطوم وسكان المدن التي فرّوا إليها. هذا التفاعل يعزز الاختلاط الديمغرافي ويعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية والهويات الثقافية في تلك المناطق.
وعلى الرغم من أهمية عدم إغفال المعاناة والصعوبات التي يواجهها النازحون في هذه الفضاءات، يمكن القول، من دون الوقوع في تفاؤل ساذج، إن التفاعل بين "الخرطوميين" ومن يُنظر إليهم كـ"أبناء الأقاليم" لا يقتصر على تبادل استراتيجيات البقاء وأنماط الحياة، بل يساهم فعلياً في بناء روابط اجتماعية جديدة تُفكك الحواجز النفسية والثقافية والقوالب النمطية الراسخة. وهو ما يساعد بدوره على إعادة تصور السودان كنسيج اجتماعي متنوع ومترابط.
لقد بدأت الهوامش، التي طالما نُظر إليها كمناطق متخلفة تنموياً، تستعيد دوراً مركزياً في تنظيم الحياة اليومية. فقد أُعيد تفعيل أنظمة الإدارة والإغاثة والتعايش التقليدية، بينما ظهرت مبادرات شعبية لاستيعاب النازحين. وبدأت الأسواق الصغيرة في مدن مثل بورتسودان وكسلا بالانتعاش مع تحوّل النشاط الاقتصادي، وامتلأت مدارس الولايات بأطفال قادمين من العاصمة. بل إن الوعي السياسي نفسه بدأ يتحوّل من انتظار الحلول من المركز إلى إعادة التفكير في البدائل المحلية.
في هذا السياق، يبدو أن الخريطة الاجتماعية للسودان تشهد تحوّلاً تدريجياً عميقاً. لم تعد الخرطوم مركز الثقل الوحيد؛ بل أصبحت المدن الإقليمية تعمل بشكل متزايد كمراكز حقيقية للحياة، بينما أخذت المجتمعات المحلية على عاتقها وظائف الدولة الغائبة. ولعلها المرة الأولى منذ الاستقلال التي يبدأ فيها كثير من السودانيين بالنظر إلى الأقاليم ليس فقط كأماكن للجوء، بل كفضاءات نابضة بالحياة والإمكانات.
القصر الجمهوري بعد معارك حرب ال15 من أبريل الضارية. المصدر: BBC
غير أن هذا التحوّل لا يخلو من تحديات. فصعود الهوامش لا يعني بالضرورة نجاح اللامركزية، بل قد يعكس لحظة فراغ تتقدم فيها المجتمعات المحلية لملء غياب الدولة. لذا، فإن التجربة غنية بالفرص لكنها أيضاً مثقلة بالمخاطر. إذ يمكن أن تندلع صراعات جديدة حول الموارد والسلطة والتمثيل في ظل غياب مشروع سياسي قادر على استيعاب هذه التغيّرات، خصوصاً في ظل وجود فاعلين مسلحين متعددين واستمرار الحرب.
ومع ذلك، فإن التغيّر الأهم لا يكمن في الجغرافيا أو الاقتصاد، بل في وعي الناس ومخيلتهم الاجتماعية. لقد انهارت الفكرة التي ترى في الخرطوم وحدها ممثلاً للسودان أو مركزاً حصرياً لاتخاذ القرار. هذه المركزية تتفكك في المخيال الجماعي، لتفسح المجال لتصورات أكثر تجذراً وتعددية للسودان. وأصبح استعادة أهمية المحليات والمجتمعات الصغيرة وأشكال التضامن الأفقي هدفاً رئيسياً لهذه الرؤى الناشئة.
وعلى الرغم من أن الصراع قوّض الأهمية الرمزية والمادية للخرطوم، فإن ثمة عودة تدريجية ومتسقة إلى المدينة تحدث حالياً. إذ تعود العائلات والتجار وبعض مكونات الإدارة الانتقالية مدفوعةً بالحاجة الاقتصادية والارتباط العاطفي وانعدام البدائل المجدية في الولايات الأخرى. هذه العودة تقوّض التفاؤل الأولي بأن اللامركزية الناشئة من التفكك قد تعالج في النهاية التفاوتات الجغرافية المزمنة في السودان. بل تكشف عن صلابة النزعة المركزية في غياب مبادرة سياسية هادفة لتوزيع السلطة والأهمية على امتداد البلاد. ربما تكون الأطراف قد أثبتت قدرتها على البقاء والوحدة، لكن من دون استثمار هيكلي، يظل صعودها مهدداً بالزوال. أما الخرطوم، المنهكة لكنها صامدة، فما زالت تحافظ على نفوذها، ليس لقدرتها على تلبية احتياجات جميع السودانيين، بل لأن الدولة لم تبلور بعد رؤيةً للسودان تتجاوز عاصمته. والرسالة واضحة: لا يمكن للامركزية التي تُفرَض عبر الصراع أن تستمر من دون إعادة هيكلة مدروسة للوجود السياسي.
وهكذا، فقد كشفت حرب أبريل 2023، على الرغم من دمارها، هشاشة النظام المركزي الذي حكم السودان لعقود. وبرغم ألمها، فإنها فتحت باباً لإعادة تصور الوطن كحيّز متعدد الأصوات والمراكز والتجارب الحياتية. وللبدء في رسم مستقبل مختلف، علينا أولاً الاعتراف بهذه التحولات كخطوة أولى في الطريق. إن فهم الأقاليم لا باعتبارها مجرد أصداء أو ظلال للعاصمة، بل بوصفها القلب النابض للحياة، هو نقطة البداية في هذه المسيرة.