هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

عندما تعرفت لأول مرة على رواندا، كان ذلك خلال الذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا عام 1994. كان الأمر محض صدفة؛ فقد كنت أعود من دولة مجاورة عندما حجز المنظمون رحلتي عن طريق الخطأ إلى كيغالي. انتهزت الفرصة لزيارة بلد كنت قد سمعت أنه من أنظف وأكثر دول أفريقيا أماناً. كانت معرفتي عن الإبادة الجماعية سطحية وعامة، لكن بمجرد وصولي، فوجئت بمدى ارتباط البلاد العميق بتاريخها العنيف. وباعتباري باحثة تركز على التراث الثقافي، لا سيما في مجتمعات ما بعد الصراع، بدأت أطرح على نفسي تساؤلات: كيف ندمج الذكريات الصادمة في ذاكرتنا الجماعية؟ كيف نتذكر أحداثاً معينة، وكيف يتم الحفاظ عليها؟


قبور مغلقة في نصب كيغالي التذكاري للإبادة الجماعية. المصدر: نورا عادل


هذه الأسئلة ليست أكاديمية فحسب بالنسبة لي، بل هي شخصية ومهنية في آنٍ واحد. فأنا سودانية، أنتمي إلى منطقة تشكلت بفعل صراعات متواصلة منذ الحقبة الاستعمارية. وقد رأيت أوجه تشابه قوية بين السودان ورواندا. فبينما تمر كل دولة بمرحلة مختلفة من الصراع أو التعافي، أدركت أن تجربة رواندا يمكن أن تقدّم دروساً قيّمة للسودان، الذي لا يزال غارقاً في أتون الحرب.

 

دفعني هذا الفضول للتركيز بشكل أعمق على رواندا. أردت أن أفهم كيف استطاع بلد مطبوع بهذا القدر من العنف أن يبني آلياتٍ للذكرى من خلال المتاحف والمراكز الثقافية والخطاب العام. هذا المقال هو نتاج رحلتي: منظور سوداني لمسار رواندا من المأساة إلى إعادة البناء والذكرى.

 

"تَصبّري، يا رواندا

ارتاحي، يا رواندا

تشجعي، فلن يتكرر ذلك أبداً

الدموع التي ذرفتها

والحزن العميق

والأسى لن يعود

يا أماه، تشجعي

تشجعي، فلن يتكرر ذلك أبداً"

 

الأسطر أعلاه مترجمة من جزء من أغنية بعنوان "إمبورِه رواندا" (Impore Rwanda)، والتي تعني "رواندا بخير"، والتي صدرت عام 2021 لإحياء الذكرى السابعة والعشرين للإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا عام 1994. شارك في أداء هذه الأغنية عدد من الفنانين البارزين، بهدف تجديد التزام الروانديين بعدم تكرار الفظائع، ولتخليد ذكرى من فقدوا أرواحهم. إن عبارة "لن يتكرر ذلك أبداً" تُستخدم على نطاق عالمي، لكنها في رواندا تحمل وزناً خاصاً ومتجذراً في السياق الوطني.


عائلات تضع الزهور على قبور أحبائهم خلال يوم كويبوكا 31. المصدر: نورا عادل

 

أدّت الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 إلى مقتل نحو 800 ألف شخص خلال ما يقارب مئة يوم بين أبريل ويوليو. كان معظم الضحايا من التوتسي، الذين استُهدفوا من قبل متطرفين من الهوتو بسبب انتمائهم العِرقي. كما قُتل أيضاً بعض أفراد الهوتو المعتدلين وأفراد من أقلية التوا (Twa). وقد شكّل هذا العدد حوالي 11٪ من سكان رواندا في ذلك الوقت.

 

لم تحظَ رواندا باهتمام عالمي واسع إلا بعد إبادة 1994، حيث جذبت حينها أنظار وسائل الإعلام، والسياسيين الدوليين، والأمم المتحدة، والمنظمات غير الحكومية، والباحثين الغربيين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت النقاشات الأكاديمية حول رواندا مهيمنة إلى حد كبير بموضوع الإبادة الجماعية، لدرجة أن حتى الأعمال التي لا تتناولها مباشرة غالباً ما تتضمن كلمة "إبادة" في عناوينها أو عناوينها الفرعية. كما شكّلت هذه الإبادة نقطة تحول حادة في كتابة التاريخ الرواندي، حيث باتت الدراسات الأكاديمية بعد عام 1994 تُعيد قراءة أحداث الماضي من منظور الغاية والنتيجة، فترى أن الصراعات السابقة بين المجموعات كانت تقود بشكل حتمي نحو الإبادة الجماعية.

 

رواندا في الحقبة ما قبل الاستعمار


يُعتقد أن مملكة رواندا ظهرت حوالي القرن الخامس عشر، وكانت تحكمها العائلة الملكية التابعة لسلالة نيجينيا، واستمر هذا النظام حتى نهاية الحقبة ما قبل الاستعمار في أواخر القرن التاسع عشر. وقد أرجع أليكسيس كاغامي، رجل دين ومؤرخ رواندي يُعدّ الأب المؤسس لتاريخ رواندا، نشأة المملكة إلى القرن العاشر، منحدرة من رعاة التوتسي، وربطها بالمؤسس الأسطوري جيهانغا نغوميجانا. لكن هذا الطرح قوبل بانتقادات شديدة، خاصة من المؤرخ البلجيكي الشهير يان فانزينا، الذي يرى أن الدولة الرواندية تطورت تدريجياً بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر، ولم تتشكل فقط بفعل العائلة الملكية من التوتسي، بل أيضاً بالتفاعل مع مجتمعات الهوتو الزراعية التي كانت موجودة أصلاً.

 

وقد استغلت القوى الاستعمارية الألمانية والبلجيكية هذه السرديات المتضاربة، التي تُبرز هيمنة الرعاة كطبقة حاكمة وخضوع المجتمعات الزراعية والفلاحية، لتعزيز الانقسامات واستغلالها، من خلال ترسيخ وتدوين الهويات العرقية بين التوتسي والهوتو والتوا، وهي سياسات يعتبرها بعض الباحثين أحد العوامل التي ساهمت في إشعال فتيل الإبادة الجماعية عام 1994.

 

تحدثتُ مع شيما كاريتا، شاب رواندي من الجيل الأول بعد الإبادة، فأكد لي أن المجموعات الثلاث: الهوتو، التوتسي، والتوا، كانت تُمارس أدوارها أشبه بالطبقات الاجتماعية منها بالجماعات العرقية، حيث كانت الفروقات بينها تستند إلى المكانة الاجتماعية، والسلطة، والثروة. وأشار إلى أن هذا التقسيم الاجتماعي لم يكن حجر الزاوية، إذ كان بإمكان الأفراد الانتقال من مجموعة إلى أخرى بناءً على ما يملكونه من ثروة، أو عدد رؤوس الماشية، أو ما يحظون به من حظوة في البلاط الملكي؛ وهي عملية تُعرف في اللغة الكينيارواندية باسم (كويهيندورا)، أي "الحراك الاجتماعي".

 

الإبادة الجماعية عام 1994 ضد التوتسي (إنتراهاموي)


كانت الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 ذروة سنوات من الصراعات الأهلية، بدأت عام 1990 عندما غزت الجبهة الوطنية الرواندية المنفية من البلاد قادمةً من أوغندا.

 

يجادل بعض الباحثين والكُتّاب بأن الإبادة الجماعية لم تكن ببساطة نتيجة للكراهية العرقية، بل نتيجة لعقود من تسييس الهويات العرقية في الحقبتين الاستعمارية وما بعد الاستعمار. فوفقاً للعديد من المصادر الأكاديمية، فإن الإبادة الجماعية والفظائع لا يمكن تفسيرها فقط من خلال كراهية عرقية أو أيديولوجيا متطرفة، بل تعود جذورها إلى صراعات على السلطة والثروة، حيث تبرز الهوية العرقية في هذا السياق أداة أو نتيجة لصراعات سياسية واجتماعية أعمق.


وبالنسبة للأجيال التي وُلدت بعد الإبادة، مثل شيما، يبقى سؤال جوهري بلا إجابة: كيف يمكن لبلد يتحدث فيه الجميع نفس اللغة أن يرتكب هذا العنف الوحشي؟ كيف يمكن أن ينقلب الجيران، بل وحتى الأقارب، ضد بعضهم البعض؟

 

غالباً ما صوّرت وسائل الإعلام الغربية الإبادة الجماعية في رواندا باعتبارها أنها مجرد صراع ثنائي بين عرقيتين، على غرار الحروب العرقية المُبسّطة الأخرى؛ إلا أن الحقيقة أن جذور الإبادة الجماعية في رواندا كانت أعمق بكثير، ترتبط بالتمثيل السياسي والصراع على السلطة.

 

في هذا السرد المُبسّط، تم تشبيه الهوتو بالنازيين والتوتسي باليهود، وهي مقارنة يمكن الطعن فيها عند فحص السياق المحلي الاجتماعي والسياسي في رواندا بعمق أكبر. فعلى سبيل المثال، انتقد الباحث كلاوس باخمان هذا الطرح من خلال تسليط الضوء على الثقافة الرواندية التقليدية وطبيعة الطاعة للدولة والكنيسة. وقد جادل بأن الأشخاص العاديين الذين شاركوا في أعمال العنف الجماعي لم يكونوا بالضرورة مدفوعين بطبيعتهم إلى العنف.


منذ الحقبة الاستعمارية، لعبت الكنيسة الكاثوليكية دوراً محورياً في ترسيخ ثقافة الطاعة، إذ كانت ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالدولة، وقد تربّت أجيال عديدة داخل منظومة هرمية صارمة، ذات مرجعية أخلاقية ودينية، حيث كان يُنظر إلى العصيان على أنه عصيان لله. وهذا الإرث من السلطة الأخلاقية والخضوع يفسر جزئياً لماذا يذكر بعض الناجين أن مرتكبي الجرائم قالوا إنهم كانوا ببساطة "ينفذون الأوامر"، سواء من الدولة أو من شخصيات دينية. وبالتالي، من المعقول القول إن الأمر لم يكن فقط نتيجة للكراهية، بل أيضاً نتيجة للطاعة العمياء للسلطة، والخوف من العصيان، والشعور الأخلاقي المترسخ بوجوب الطاعة.


 كنيسة سانت فاميل التي بُنيت عام ١٩١٣ كإحدى أولى مراكز البعثات الكاثوليكية في رواندا. المصدر: تريب أدفايزر

 

ما بعد الإبادة: المتاحف وإحياء الذكرى


إذا زرت رواندا خلال العقدين الماضيين، فستلاحظ بوضوح وجود عدد كبير من مواقع النُصب التذكارية والمتاحف المرتبطة بالإبادة الجماعية، إلى جانب فنون متجذرة في التاريخ العنيف للبلاد. هذه المواقع والمتاحف جذبت الزوار من مختلف أنحاء العالم، وساهمت في وضع رواندا ضمن أبرز وجهات ما يُعرف بـ"السياحة السوداء"، وهي ممارسة السفر إلى أماكن ارتبطت بالموت والمآسي والمعاناة، مثل معسكر أوشفيتز في بولندا، وهيروشيما في اليابان، ومواقع تجارة الرقيق عبر الأطلسي في السنغال وغانا. ومنذ أوائل الألفينات، شهد هذا النوع من السياحة نمواً ملحوظاً كجزء من توجّه عالمي أوسع، حيث بدأت الدول تستخدم الذاكرة والصدمة كرأسمال ثقافي لجذب الزوّار.


جدرانٌ تحمل أسماء ضحايا الإبادة الجماعية في كيغالي. المصدر: نورا عادل

 

ومع استمرار اكتشاف رفات الضحايا بعد الإبادة، شرع الناجون والمجتمعات المحلية في إنشاء مواقع دفن ونُصب تذكارية غير رسمية تكريماً للضحايا. وقد تبنّت الحكومة لاحقاً هذه المبادرات الشعبية، وقامت بتقنينها وإدماجها ضمن سياسة وطنية للذاكرة تطوّرت عبر العقود الثلاثة الماضية.

يعتقد البروفيسور الرواندي إيريك ندوشاباندي أن هذا التوجّه أدى إلى نشوء ذاكرة وطنية تفكك التصورات العرقية التي كرّسها الاستعمار، وتدفع نحو بناء أمة موحّدة وهوية جديدة تقوم على عناصر ملموسة وموضوعية، مثل العدالة، والاندماج الاجتماعي والاقتصادي، والتعويض الرمزي. وبالتالي، تحمّلت القيادة في ذلك الوقت مسؤولية دمج هذه الذاكرة في التاريخ الرسمي للبلاد، بدءاً من جهود إحياء الذكرى التي انطلقت مباشرة في عامي 1994 و1995، بالإضافة إلى العمل المؤسسي على إنشاء مواقع تذكارية دائمة.

 

وفي الذكرى العاشرة للإبادة عام 2004، افتتحت الحكومة النُصب التذكاري للإبادة في كيغالي بعد ترميمه، وأعلنت عن أسبوع رسمي لإحياء الذكرى يُعرف باسم أسبوع كويبوكا (Kwibuka Week)، والذي لا يزال يُنظّم حتى اليوم. وكلمة "كويبوكا" تعني "نتذكّر" باللغة الكينيارواندية.


احتفالات كويبوكا 31 في النصب التذكاري للإبادة الجماعية في كيغالي. المصدر: نورا عادل

 

خلال أسبوع كويبوكا هذا العام، أُتيحت لي فرصة الحديث مع العديد من الروانديين ومتابعة الفعاليات عن قرب. وأكثر ما أثّر فيّ هو كيف دخلت البلاد بأكملها حالة من الحِداد الجماعي. لن تسمع موسيقى، وتؤجَّل حفلات الزفاف. يركّز الناس على المشاركة في طقوس الحزن في الأماكن العامة، والاستماع إلى شهادات الناجين، سواء في الأحياء المحلية (المعروفة بالخلايا والقطاعات)، أو عبر القنوات الوطنية.

 

 خلال هذا الأسبوع، كانت المتاجر تُغلق في ساعات مبكرة، بعضها عند الساعة الرابعة مساءً، لإتاحة المجال للمشاركة في الفعاليات المجتمعية الخاصة بإحياء الذكرى، كما أوضح لي أحد جيراني الروانديين. حتى حي جيسيمِنتي، أحد أكثر الشوارع حيوية في كيغالي، والذي عادة ما يضجّ بالموسيقى والحياة الليلية، خيّم عليه الصمت التام خلال كويبوكا. توقفت المطاعم المحلية والعالمية عن تشغيل الموسيقى، وكان من المعتاد رؤية مجموعات من الشباب والشابات يرتدون الأسود يمرّون في الشوارع. لقد كانت لحظة حزن جماعية مرئية، تُجسّد كيف توحّد الذاكرة شعباً بأكمله في طقس واحد من الصمت والتأمل.

 

نصب كيغالي التذكاري للإبادة الجماعية


يقع النُصب التذكاري للإبادة الجماعية في كيغالي بمنطقة جيسوزي، شمال العاصمة الرواندية. ويُعدّ الموقع الوطني الرئيسي لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية التي وقعت عام 1994 ضد التوتسي، حيث دُفن رُفات أكثر من 250,000 ضحية. في كل عام، في السابع من أبريل، تبدأ فعاليات أسبوع كويبوكا بحفل رسمي يُشعل فيه الرئيس بول كاغامي والسيدة الأولى جانيت كاغامي شعلة الذكرى، وهي نار رمزية تظل مشتعلة طوال مئة يوم، في إشارة إلى مدة الإبادة، ما ترمز للأمل والقدرة على الصمود، إلى جانب التزام وطني صارم بمبدأ "لن يتكرر ذلك أبداً". ويحضر هذا الحفل مسؤولون حكوميون وناجون من الإبادة ودبلوماسيون وضيوف دوليون.


شعلة الذكرى في نصب كيغالي التذكاري للإبادة الجماعية. المصدر: نورا عادل

 

يحتوي النُصب التذكاري على معرض دائم يعرض سرداً زمنياً للإبادة الجماعية، وصوراً للضحايا، وقسماً خاصاً بإبادات جماعية أخرى مثل الهولوكوست وإبادة كمبوديا، إلى جانب قسم مخصص للأطفال الضحايا. كما يضم قبوراً مفتوحة ومغلقة، وجدراناً منقوشة بأسماء الضحايا، ومساحة مفتوحة للتأمل والحِداد. ويُبرز النُصب بشكل واضح هوية الضحايا باعتبارهم من التوتسي، كما يعزز من دور الجبهة الوطنية الرواندية وزعيمها بول كاغامي باعتبارهم "محررين" و"منقذين" للشعب الرواندي.

 

وعلى نطاق أوسع، ورغم تطور النماذج المتحفية في إفريقيا، إلا أن جهود إزالة الاستعمار في المتاحف لم تُطبّق بالكامل بعد. لا يزال إعداد المعارض المتحفية يتأثر إلى حد كبير بالسرديات الغربية. فعلى سبيل المثال، تُعدّ جنوب إفريقيا من البلدان التي عرفت تاريخاً حافلاً بالعنف، وقد أُقيمت فيها وفي أنغولا عدد من النُصُب التذكارية ومواقع الذكرى. إلا أن بعض الباحثين يرون أن هذه المبادرات محاصَرة ضمن ما يُعرف بمجمع تذكاري لما بعد الاستعمار، حيث تؤثر علاقات القوة السياسية على سرديات المتاحف، فتعزّز الروايات القومية المرتبطة بالأبطال الوطنيين، في حين تُقصي الذكريات الشعبية أو القروية أو الإقليمية المتنوعة.

 

ومع ذلك، هناك جهود إفريقية ملحوظة لإعادة تصور المتاحف بما يتجذر في التراث المحلي، مثل متحف المرأة في نيالا، السودان، الذي قامت بتنسيقه فاطمة محمد الحسن، ومتحف تاريخ النساء في زامبيا، وكلاهما يقدّم تحدياً للنموذج الغربي التقليدي للمعارض الجامدة والأشياء المحفوظة خلف الزجاج، من خلال التركيز على التراث الحي والذاكرة والأرشيفات، بطرق تدمج المجتمعات المحلية وتُشركها في الحفاظ على ممارساتها التراثية.

 

مثال آخر هو المتاحف المتنقلة التي أطلقتها نانا أوفورياتا أييم في غانا، حيث تنتقد النموذج التقليدي للمتاحف الذي قد يكون منفّراً أو غير ملائم للمجتمعات المحلية، لا من حيث التصميم المعماري ولا من حيث الوظيفة. وتقوم هذه المتاحف المتنقلة بجلب المعارض إلى المدن والقرى، ما يتيح للمجتمعات فرصة استعادة تراثها والمشاركة في اختيار وتفسير ما يُشكّل هويتها الثقافية.

 

هذه الأمثلة لا تطرح بدائل فحسب، بل تُظهر كيف يمكن للمتاحف أن تتجذّر في الثقافة الإفريقية وتتحرر من الإرث الغربي. أما في حالة متحف الإبادة الجماعية في كيغالي، فالوضع أكثر تعقيداً. فرغم أن الموقع يتيح للروانديين ممارسة تقليد زيارة القبور بانتظام، لا سيما خلال فترات الحداد، إلا أنه غالباً ما يُنتقد لتقليده النماذج العالمية لمواقع الذكرى، وخصوصاً متاحف الهولوكوست في الولايات المتحدة وإسرائيل.

 

في البداية، كانت الجولات الإرشادية تُقدَّم من قبل ناجين، وهي ممارسة اعتبرها بعض الباحثين وسيلة لتمكين الأفراد من خلال إتاحة الفرصة لهم لرواية قصصهم وتأكيد روايتهم الخاصة. إلا أن هذا النهج استُبدل لاحقاً بمرشدين مدرَّبين توظفهم الحكومة، وهو ما يعكس تحولاً في كيفية تنظيم الذاكرة الرسمية.


المنحوتة التذكارية لكويبوكا في النصب التذكاري للإبادة الجماعية في كيغالي. المصدر: نورا عادل

 

يشير بعض الباحثين، مثل يوهانا مانرغرين سليموفيتش وزميلاتها في دراسة "السلام وسياسات الذاكرة في رواندا ما بعد الإبادة الجماعية"، إلى أن التمويل الأجنبي والتأثير الدولي يؤثران على الطريقة التي تُدار بها ذكرى الإبادة الجماعية على المستوى المحلي. فعلى سبيل المثال، أدّت التغيرات في أولويات الجهات المانحة إلى تحوّل في التركيز من الأرشفة إلى التعليم، ما يُظهر كيف يلعب التفاعل الدولي دوراً في إعادة تصوّر رواندا بعد الإبادة.

 

ويُدار تنظيم النُصب التذكاري حالياً من قبل اللجنة الوطنية لمكافحة الإبادة الجماعية، بالتعاون مع مؤسسة Aegis Trust البريطانية، التي نظّمت أيضاً محتوى المركز الوطني للهولوكوست في المملكة المتحدة. وقد أشار الباحثون إلى أن هذه الشراكة أدخلت عناصر جمالية وممارسات ذاكرة ذات طابع دولي إلى السياق الرواندي، مما يؤثر على طريقة تشكيل الذاكرة وتجربة الزوار لها.

 

مع ذلك، لا تُقابل هذه الانتقادات بقبول تام داخل رواندا. ففي محادثات أجريتها مع العديد من الشباب الروانديين، وصفوا جهود الحكومة في تخليد الذكرى بأنها ضرورية وفعّالة. بالنسبة لهم، لا يُعد نُصب كيغالي التذكاري مجرد أداة لمواجهة إنكار الإبادة، بل أيضاً وسيلة لتكريم كرامة الضحايا. ويُجسّد هذا النصب، في نظرهم، استجابة ذات معنى ومحترمة على ماضي رواندا المأساوي.

 

حملة مناهضة ضد الإبادة الجماعية


تقع حملة مناهضة ضد الإبادة الجماعية داخل مبنى البرلمان الوطني الرواندي في كيغالي، وتلعب دوراً محورياً في جهود البلاد لإحياء ذكرى إبادة عام 1994 وتعزيز رواية وطنية موحّدة. يتألف المتحف من تسع قاعات عرض تتضمن صوراً فوتوغرافية ونصوصاً وتماثيل شمعية ومحاكاة لمعارك اجتياح قوات الجيش الوطني الرواندي للعاصمة كيغالي بهدف وقف الإبادة الجماعية وإنقاذ المدنيين. ونظراً لأن هذا المبنى كان يُستخدم كبرلمان خلال الإبادة، كان أيضاً قاعدة عسكرية لقوات الجيش الوطني الرواندي، لا تزال آثار الرصاص والمعارك ظاهرة على جدرانه حتى اليوم.

 

تم تنظيم السرد المتحفي بأسلوب يسلّط الضوء على الدور البطولي والجهود التي بذلها الجيش الوطني الرواندي، ويبرز في الوقت نفسه تقاعس المجتمع الدولي عن التدخل. خلال زيارتي، شاهدت ثلاث مدارس مختلفة تقوم بجولة داخل المتحف، حيث كان الطلاب يتلقون عروضاً تقديمية عن تاريخ بلادهم. ورغم أن تعلّم تاريخ الوطن أمر لا جدال في أهميته، إلا أن هذه التجربة دفعتني للتفكير في ما إذا كان تنظيم المتحف يقدّم تاريخ الحزب الحاكم أكثر مما يقدّم أرشيفاً تاريخياً حيادياً.


أزهار على قبر مفتوح في المساحة المفتوحة بنصب كيغالي التذكاري للإبادة الجماعية. المصدر: نورا عادل

 

متحف إنغابو


رغم أن المشهد الثقافي في رواندا يُعتبر غالباً مُهيمناً من قبل المتاحف والمراكز الثقافية التابعة للدولة، إلا أن هناك عدداً متزايداً من المبادرات الشعبية في كيغالي تنطلق من مجالات الفن والثقافة المستقلة. ورغم هذا التنوع، لا تزال رواية الإبادة هي السائدة. يُعد متحف إنغابو متحفاً مستقلاً خاصاً، يقدّم القصص الإفريقية والفنون لمجموعة متنوعة من الزوار من المسؤولين المحليين والدوليين، والطلاب، والمغتربين، وغيرهم. يضم المتحف عدداً من المعارض، أبرزها "طريق المعاناة"، وهو عمل فني تركيبي يقدّم تجربة نفسية تجسّد المسار الصعب الذي سلكته رواندا من عام 1994 وحتى عام 2024.

 

يُعد هذا المعرض تمثيلاً فنياً مؤثراً لمسار البلاد في دمج تاريخها العنيف ضمن تراثها الثقافي وذاكرتها الوطنية. ويعكس دولة تقف بين محاولات تحقيق العدالة للناجين من جهة، ومن جهة أخرى تظل غير شاملة تماماً لجميع الفئات في عملية العدالة الاجتماعية والمصالحة. رواندا اليوم بلد آمن ومستقر، لكن مع تزايد التقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان، رغم عدم حدوث أعمال عنف طائفية واسعة النطاق منذ إبادة 1994، ما يشكّل اختباراً حقيقياً لجهود الدولة والمجتمع في التغلب على العقبات لتحقيق تحول اجتماعي شامل.


التركيب الفني لـ"طريق المعاناة" في متحف إنغابو. المصدر: محمد عوض

 

تأملات سودانية


أظهر لي وجودي في بلد أجنبي يحمل هذا الإرث المعقد مدى صعوبة، بل وعدم جدوى، الحكم على الأمور من خلال القراءات أو التجارب الحياتية فقط، رغم أن كليهما ضروري لفهم السياق. تُعدّ المتاحف والمساحات الثقافية هي جزء متجذر في منظومة العدالة والمشهد السياسي لأي بلد.

 

وقد أثبت لي العيش في رواندا أن إحياء الذكرى لا يقتصر على الحفاظ على الماضي، بل يشكّل أيضاً وسيلة لصياغة المستقبل. الطريقة التي ينوح بها الروانديون جماعياً، ويتذكرون، ويواصلون محاولة بناء أمة واحدة رغم الماضي العنيف والانقسامات العرقية، أمر مؤثر للغاية. وبصفتي باحثة سودانية تشهد بلادها وهي تخوض حرباً، أرى في رواندا مرآة وخارطة: مرآة تعكس ألماً مشتركاً، وخارطة تقود نحو إمكانيات الشفاء. التعامل مع ذاكرة العنف وتراثه جزء أساسي من بناء المصالحة في أي بلد، لكنه، كما أوضح البروفيسور إيريك، يتطلب عناصر جوهرية مثل التنمية الاقتصادية، والعدالة، والإنصاف.


رؤى اسماعيل

رؤى إسماعيل هي منتجة للوسائط الرقمية وباحثة ثقافية. شغوف باستخدام رواية القصص والبحث لدفع التغيير الإيجابي، خاصة في السودان وشرق أفريقيا. يجمع نهجها متعدد التخصصات بين السياسة والفن والثقافة والإعلام لصياغة روايات مؤثرة وشاملة. تقع حقوق المرأة والصحة الجنسية والإنجابية وتبادل المعرفة وإنتاجها ونشرها عند تقاطع اهتماماتها المهنية والشخصية.