تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا.
في عام 2025، مع نهاية شهر مايو (في الثامن والعشرين منه)، تلقّيتُ الخبر. مؤلف كتابي المفضل قد رحل عن عالمنا.
تبدأ حكايتنا...
كنت مراهقةً حين التقيت بنغوجي وا ثيونغو من خلال كتاباته. في ذلك الوقت، أسرتني قصة نيـامبورا وواياكي، بطلا روايته "النهر الفاصل"، بينما كنت أتذوق أول لمحة من الروح الأدبية لإفريقيا.
الراحل نغوجي وا ثيونغو أديب أفريقيا. المصدر: New African magazine
في أوائل الألفية الجديدة، وسط صخب فيسبوك وبرودة الحياة في مدرسة داخلية، وجدت لنفسي ملاذاً. لحظة أفرّ فيها خارج حدود المنطقة التي أدرس فيها، ليس فقط خارج الأسوار المغلقة لمدرستي التي أسسها المبشرون، بل وخارج حدود أوغندا ما بعد الاستعمار. في حكايات نغوجي، رأيت لمحة من التاريخ الإفريقي لدى جيراننا الكينيين.
في "النهر الفاصل"، تعرفت على "التلال"، اللذان يشبهان عملاقين نائمين في المساحات الشاسعة يفصل بينهما نهر (تخيله مثل بحيرة نالوبالي أو نهر النيل في شرق إفريقيا). بجوار النهر، كان هناك شخصان واقعان في حب مستحيل.
كانت موثوني، شقيقة نيـامبورا، التي لاقت حتفها في "النهر الفاصل"، خياري الأمثل وأنا أقرأ عن طقوس العبور القبلية. كنتُ أنا أيضاً آمل أن ألتزم بالدعوة الأفريقية للرقص. وفي والد واياكي تشيغي، سمعت صوت الأسلاف يحثّ على تعلّم أساليب العصر الجديد من دون أن نخضع لها.
فبعد كل شيء، البانيانكولي الذين أعرفهم في أوغندا يحذرون قائلين: "أكانا كاتاجيندا كاتي ماما أتيكاغي!" والتي تعني (الطفل الذي لا يخرج، يظن أن طعام أمه هو الأفضل دائماً.)
الكاتبة (بالفستان الأخضر) تستمتع برقصة الـ"موانزيلي" التي نظمتها جمعية ماليندي الثقافية في كينيا. تصوير: مارتن كاونا.
في منتصف عام 2025، تذكّرت هذا الدرس في الفن. في مقابلة قصيرة، واحدة من بين العديد من المقابلات المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، يحذرنا نغوجي من إيجاد التمكين في إضافة لغة أجنبية إلى اللغة الأم، ومقاومة الاستعباد الناتج عن التخلي عن اللغة الأم. والمفارقة هنا، أنه على الرغم من دعوة نغوجي الحثيثة للحفاظ على اللغات الإفريقية، فإن وصولي إلى أعماله كان عبر دراسة الأدب باللغة الإنجليزية (تماماً كما أودّعه الآن بهذه اللغة الأجنبية نفسها).
نداء الاختيار
في الصفحة 111 من رواية "النهر الفاصل"، تجد شخصية "نيـامبورا" أن «النهر لم يعد يهدئها». وبينما تدور الحكاية حول نيـامبورا الخيالية، فإن الاسم نفسه يحتل مكانة محورية في حياة المؤلف الواقعية.
فنغوجي، الذي بقى أفراد أسرته من بعده، يُستدعى إلى الذاكرة، مثل واياكي في ولادته الثانية، ليواجه "شيطانه الداخلي" ويحمل الصليب. وفي هذا السياق بعد رحيله، يترك نغوجي وا ثيونغو ذكريات عن علاقة غير سارة مع زوجته الأولى نيامبورا، وهي امرأة كينية، معلمة، مزارعة، وأم لعدد من أبنائه، عرفها منذ أيام شبابه قبل أن يمضي في طلب العلم بجامعة ماكيريري.
في الكتاب، ترفض نيامبورا واياكي. وعلى الرغم من اختلاف الخطوط السردية، فإن شخصية نيامبورا الخيالية في الكتاب تُقدم رسالة أدبية مفادها أن نيامبورا الحقيقية التي تقبل بالمؤلف تحمل معنى نقدياً لقصة نغوجي. وعند النظر إلى المؤلف كبطل أدبي أو شهيد، فإن السؤال المطروح هو: هل يستطيع البطل الأدبي الصمود في فراغ؟ وعندما يتعرض البطل الأدبي للاضطهاد السياسي، هل يحصل الشخص الإنسان الذي يحمل الأدب على اللجوء أم يُبدد هذا الاضطهاد؟
في هذا المقال، وأنا أودع البطل الأدبي، أحرص بأن أُلزم نفسي تجاه الإنسان. هل هو بطل أم شهيد، يونيو يسألنا نحن الأوغنديين. ومع تحليل هذه الحالات، يظهر الجانب الثالث وهو الإنسان. من هو الإنسان الذي ينظر إليه المجتمع كبطل أو شهيد بعد وفاته؟ نغوجي، الذي أعتبره بطلاً أدبياً، ليس شهيداً لكل أشكال الظلم والقمع. ورغم كونه شهيداً فنياً لمجال القصة الكينية، إلا أن الكاتب ليس بطلاً في إطار الأسرة. يتساءل هذا الرثاء عن نغوجي: هل هي اختيارات الأرض، الأمة، الشعب أم الإنسانية، التي تعمل على تعزيز الظلم وتغليفه بغطاء من الصواب؟
بالفعل، مع صمود البطل الأدبي، ما هي الحساسيات التي تحمّلني كقارئة فضولية وكامرأة اليوم؛ حين لا يهدئني التاريخ مثل شخصية نيامبورا على النهر؟
كتاب نغوجي "النهر الفاصل" الصادر عام 1959 وكانت أول رواية خيالية أقرأها.
وجبتي الأدبية المفضلة
في أواخر العقد الأول من الألفية، التقيت بنغوجي مجدداً عندما كُلّفت بدراسة كتابه "شيطان على الصليب". حيث يبدأ نغوجي هذه القصة بأسلوب سردي ملئ بالأحداث. العراف مضطرب! هذا هو اللغز الذي فتح السحر الأدبي للكتاب. للتعمق في أسئلة تجاوزت الزمن بالنسبة للأفريقي في الماضي، والحاضر، والمستقبل.
هل أصبح الشيطان أخيراً على الصليب؟
في عام 2025، يترك نغوجي التاريخ في زمن ملئ بالأسئلة.
جاء رحيل نغوجي بعد أشهر قليلة من تولي دونالد ترامب منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. ذكري للولايات المتحدة مهم هنا لأن نغوجي، حتى وقت وفاته، كان مرتبطاً باحترافية بها. فربما تبعث السياسة الاجتماعية الراهنة في الولايات المتحدة حول برامج التنوع والمساواة والشمول شعور يثير توتراً خفياً. في هذه السياسة، يُطلب من الأفريقي التخلي عن العقلانية في تاريخه وهويته. وهذا يهدد بخلق فراغات جديدة في سرد القصة الأفريقية. حيث صارت سرقة الهوية المحتملة ليست توقعاً صادماً بل فجراً مخيفاً بينما يرقد نغوجي في سكون الموت.
اليوم، أتساءل ان كان الشيطان على الصليب على المستوى العالمي؟
لتوضيح هذا التشبيه، يجب أن أصحبكم إلى حفلة الكهف في إلموروغ، التي وصفها نغوجي بشكل أفضل باسم "وليمة الشيطان"، حيث يجتمع رجال الأعمال من جميع أنحاء العالم للتنافس. في رواية "شيطان على الصليب"، تمتلك الشخصية الرئيسية، وانغاري، رؤية لا يرها معظم الناس. لقد رأت شيئاً مقلقاً يتجول في نيروبي! لكن لدى الشخصية مهمة، حيث يجب أن تصلب الشيطان كما ينبغي! تحضر الشخصية تجمعاً لرجال أعمال دوليين؛ بعضهم بطونهم مترهلة من كل الفساد المسروق، وبعضهم وجوههم منتفخة من كل الهواء المنهوب. إنه وكر للصوص. هكذا يصور نغوجي الرأسمالي في الكتاب.
يرحل الكاتب نغوجي وا ثيونغو، الكيني الأصل، بعد فترة وجيزة من نهضة الكينيين بروح معاصرة تكرّم المعنى التاريخي لمقاومة الماو-ماو. إن روح الماندامانو التي أُعيد إحياؤها ضد روتو في كينيا تدعو إلى التساؤل مجدداً: هل حقاً الشيطان على الصليب؟
بعد مشروع قانون مالي مقترح، يشبه مشروع قانون الضرائب الذي أقره ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية عام ٢٠٢٥، يواصل الماندامانو الكيني، مثل الماو ماو ضد الاستعمار، في المطالبة بمحاسبة تضمن استمرار الكرامة في الوطن. كما يحذر نغوجي في كتابه "شيطان على الصليب": أصبح الهواء سلعة تُعبأ، والسكن أعشاش باهظة الثمن، وقريباً سيتم قياس كمية الأكسجين التي يحتاجها الإنسان كوحدة. هنا، يتنافس رجال الأعمال لفرض المزيد من الضرائب حتى على طبيعة الله ذاتها!
كتاب نغوجي "لا تبكِ أيها الطفل" هو أول رواية خيالية له.
ربط خيوط الزمن
اليوم، ومع رحيل نغوجي، من المحتمل ألا يُدرّس أدبه في البلد الذي أمضى فيه وقتاً من عمره في التدريس. في الولايات المتحدة اليوم، يظهر "الشيطان الذي يتحدى الصليب" في مجال التعليم حول تاريخ الأفارقة وما يعنيه تجاهل ذلك التاريخ. هل يعتقد نغوجي بعد وفاته أن الكثير من الدراسات الأفريقية ستُستكشف في ذلك الجانب من العالم؟
وهنا في أفريقيا، هل سيستمر الأدب في ترديد أصوات المقاومة عبر الزمن؟
هذه اللحظة من التحول في الوعي لا ينبغي تجاهلها. فمع توثيق جزء كبير من التاريخ الأفريقي باللغة الإنجليزية ومن منظور أجنبي، فمن المنطقي أنه إذا تم تقويض هذا التعليم أو التعامل معه ضمن الحوار السياسي الحالي (واللا-منطقي)، فقد تعاني علوم المعلومات حول أفريقيا. ومع ذلك، حتى عندما يُهمل السياق ويختفي من الوعي، يبقى الفن رهاناً آمناً للسفر عبر الزمن.
أما سواء اهتمّ روتو أو ترامب بالخطاب الأدبي، فهذا ليس محور اهتمام هذا المقال. اهتمامي هو الاعتراف بنغوجي وا ثيونغو. حيث أن أدبه يمثل فرصة لبقاء السرد الفني بعد رحيل مؤلفه. تستمر أعمال نغوجي عبر الزمن كتذكرة لحصاد الحكمة من المعرفة المتشكلة في الفن من الماضي والحاضر والمستقبل.
والآن، وداعاً نغوجي! (أراك في الصفحات الصفراء*).
—
الصفحات الصفراء*
نغوجي وا ثيونغو: لا تبكِ أيها الطفل، 1999. النهر الفاصل، 1959. شيطان على الصليب، ماتيجاري، نجاهيكا ندييندا، تحرير العقل.