الأرشفة في سياق السودان
تزخر الساحة الأرشيفية في السودان بتراث غني ومتنوّع، يشمل قطعاً أثرية قديمة مثل مجموعات من العصر الحجري القديم، ومملكة كوش، والعصور الإسلامية، والتي كانت محفوظة سابقاً في مؤسسات مثل المتحف القومي السوداني. كما تضم مخطوطات وتاريخاً شفهياً مثل أرشيفات الموسيقى التقليدية ومخطوطات قديمة تحتفظ بها مؤسسات كجامعة الخرطوم ومركز البجا الثقافي (اليونسكو). وأخيراً، تسهم المتاحف المجتمعية مثل متحف شيكان في الأبيض، وبيت الخليفة في أم درمان، ومتحف دارفور في نيالا في حفظ مقتنيات تحمل قيمة خاصة للذاكرة والهوية المحلية.
وقد تَشَكَّل مسار السودان نحو الأرشفة الرقمية من خلال مزيج من المبادرات المؤسسية، والحركات المجتمعية، والتعاونات الدولية. ففي الفترة بين 2012 و2013 أطلق معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم مشروعاً لتقييم ورقمنة مجموعته الواسعة من الموسيقى السودانية التقليدية، والتي تضم أكثر من 3000 تسجيل صوتي وصورة فوتوغرافية جُمعت منذ عام 1963. وكان الهدف من هذه الخطوة حماية التراث الثقافي غير المادي للسودان.
جامعة الخرطوم كان لها دور كبير في حماية ثراث السودان غير المادي. المصدر: ويكيبيديا
كما ظهرت مبادرات أخرى يقودها شركاء محليون وأوروبيون ركزت على رقمنة أرشيف هيئة الإذاعة والتلفزيون السودانية. وفي عام 2018 أُطلق رسمياً "مشروع ذاكرة السودان" بهدف رقمنة التراث الثقافي السوداني والتعريف به عبر منصة إلكترونية متاحة حالياً (https://www.sudanmemory.org/).
وفي تقاطع الأرشفة مع النشاط الحقوقي والعدالة الاجتماعية، انطلق مشروع جديد بعنوان "الأرشيف السوداني" أسسته منظمة "Mnemonic" غير الربحية العالمية، لدعم المدافعين عن حقوق الإنسان عبر أرشفة وتحليل المعلومات الرقمية المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان. وقد شكّلت هذه المبادرة خطوة محورية في حفظ الوثائق وسط النزاعات المستمرة.
شعار موقع الأرشيف السوداني. المصدر: موقع الأرشيف السوداني
التحوّلات
تُعدّ الأرشفة في المناطق التي تعيش حالة من عدم الاستقرار السياسي مهمة معقدة وغالباً ما تكون محفوفة بالمخاطر.
في سياق سياسي غير مستقر مثل السودان، اضطر الفنانون والنشطاء إلى ابتكار طرق إبداعية وسرّية للحفاظ على الذاكرة الثقافية حيّة. ومن خلال بحثنا والكتاب الذي نشرناه بعنوان سَيْرورَة المقاومة، تبيّن لنا أن الأرشفة لم تكن مجرّد عملية حفظ، بل شكّلت أيضاً أداة للمقاومة واستراتيجية للبقاء.
غلاف كتاب سيرورة المقاومة
أصبحت الجهود الشعبية والأرشيفات الشخصية أدوات أساسية لحماية ما حاولت الهياكل الرسمية طمسه أو، كما هو الحال أثناء الحرب، ما لم تتردّد في تدميره. إن مفهوم الأرشيف ذاته أصبح موضع جدل وإعادة تعريف في ظل التهجير والعنف وحالة عدم اليقين. لقد شهد كل من الأرشفة التقليدية والرقمية تحوّلات كبيرة، خصوصاً في ظل الصراع المستمر منذ أبريل 2023، والذي ألحق أضراراً واسعة بالمؤسسات الثقافية السودانية عبر أعمال النهب والتدمير، إلى جانب فقدان أرشيفات ثمينة بسبب الحرائق.
تكبد متحف السودان القومي خسائر جسيمة، حيث أشارت التقارير إلى أن نحو 90% من مقتنياته قد دُمّر أو نُهب على يد قوات الدعم السريع. كما تعرّضت متاحف أخرى مثل المتحف الإثنوغرافي، ومتحف التاريخ الطبيعي، والمتاحف المجتمعية في نيالا والفاشر للتخريب أو التدمير. ولم تسلم المؤسسات الأكاديمية كذلك، إذ فقد مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية أرشيفات مهمة نتيجة الحرائق وأعمال النهب (جمعية مؤرخي العمارة ).
حجم الدمار الذي لحق بمتحف السودان القومي. المصدر: وكالة اسوشيتد برس
إعادة تصوّر الأرشفة
على الرغم من حجم الدمار، فإن الجهود متواصلة للحفاظ على التراث الأرشيفي السوداني وإعادة تصوّره. فقد لعبت عدة مبادرات قاعدية ومنظمات ثقافية أدواراً بارزة في مشهد الأرشفة الرقمية بالسودان:
- متحف نساء دارفور، الذي تأسس عام 1985 في نيالا لحفظ التراث الثقافي لنساء دارفور. وقد تعاون مع مشاريع مثل ذاكرة السودان لرقمنة مجموعاته، بما يضمن حفظها وإتاحتها على نطاق أوسع.
- طوّرت "زا ميوز" ملتي ستيديوز التي أسستها الفنانة ريم الجعيلي، أرشيف للفن السوداني، وهو مستودع رقمي يضم أعمالاً فنية لفنانين سودانيين. وقد وثّق الأرشيف أعمال الفنانين بين عامي 1975 و2025، من خلال إشراكهم في إنتاج سجلات رقمية لأعمالهم.
- رفت ديجيتال لاب، الذي تأسس عام 2019، ويدفع حدود التقاء الفن بالتكنولوجيا والوسائط المتعددة، عبر إنتاج البودكاست، والكتب الصوتية، وتجارب الواقع المعزز/الافتراضي، إلى جانب مشاريع الرقمنة الثقافية.
- ساهم سودان فلم فاكتوري، وهو منصة ثقافية متحصصة في إنتاج الأفلام وتنظيم الفعاليات ودعم المواهب السودانية، في مشروع ذاكرة السودان، كما عقد شراكات مع مؤسسات عالمية مرموقة مثل معهد آرسنال لفن الفيلم والفيديو وSAVVY Contemporary، لتنظيم فعاليات مثل "حول الأرشيفات، الإرث، والموجات الجديدة للسينما السودانية" لعرض الخطابات والسرديات السودانية عبر أرشيفات الأفلام.
- إلى جانب ذلك، بدأت وزارة الثقافة والإعلام السودانية، بالتعاون مع مؤسسات ثقافية مختلفة، في العمل على حماية التراث الثقافي بعد النزاع، مع التركيز على استعادة الأرشيفات وإعادة تأهيل المتاحف، من خلال التعاون مع المنظمات الثقافية لتقييم الأضرار وإعادة بناء البنية التحتية للأرشيف المادي حيثما أمكن. وتشمل هذه الجهود المسح الضوئي للمخطوطات، والصور، والصحف، والسجلات الاستعمارية، بما يضمن إتاحتها وحمايتها من التلف المادي.
منتجات يدوية من السلال المزخرفة والمصنوعة من سعف النخيل والخيوط الملوّنة، وهي جزء أصيل من التراث السوداني. المصدر: ويكبيديا
تعكس جهود السودان في مجال الأرشفة – الممتدة بين المؤسسات الحكومية، والمنظمات غير الحكومية، والمجتمعات المحلية – نهجاً شاملاً ومتطوراً لحفظ التراث الثقافي الغني للبلاد. ومن خلال الرقمنة، والتدريب، والتعاون الدولي، تسعى هذه المبادرات إلى حماية المواد المهدَّدة بالاندثار وتوسيع نطاق وصول الجمهور إلى التاريخ السوداني.
وقد أسهم الاعتماد المتزايد على الأدوات الرقمية، ولا سيما في المجتمعات المتأثرة بالأزمات، في تسريع وتيرة الابتكار واستقطاب دعم متزايد لحفظ الثقافة. وتؤكد هذه الجهود مجتمعة على صمود المؤسسات والمجتمعات السودانية والتزامها، بما يضمن للأجيال القادمة التفاعل مع ذاكرتها الجمعية واستعادتها.
هذا المقال هو ثمرة إبداعية لتأملات انبثقت من جلسات حوارية حول الأرشفة استضافها مركز الدراسات الدولية والإقليمية – جامعة جورجتاون (CIRS-Georgetown) في إطار ورشة عمل حول الأرشفة في السودان. ويمكن الاطلاع على القائمة الكاملة لمبادرات البحث في أرشيفات السودان عبر الموقع: CIRS.qatar.georgetown.edu