هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

لحقول النفط صورة نمطية مألوفة عادةً: آلات ضخمة منصوبة في أماكن غريبة. تناقض عميق ومزعج بين المعدات الفولاذية التي صنعها الإنسان وجمال الغابات المطيرة والمروج والصحارى والمحيطات. على سبيل المثال، لكي يتم تركيب برج حفر، لا بد من إحداث فجوة كبيرة في الغابة؛ يجب إخلاء مساحة للآلات، وحفر برك الطين، والخنادق، وأحياناً المخيم المصاحب. وبهذا، تتحول مساحة واسعة من الأرض من غطاء كثيف من الأشجار والأدغال إلى حفرة خالية مليئة بمنشآت غريبة تماماً عن البيئة المحيطة.


يمتد أنبوب النفط عبر الأرض بطريقة غير متناسقة على الإطلاق. أبشع منظر قد تلاحظه في مرج مفتوح هو مضخة شعاعية تتحرك صعوداً وهبوطاً ليل نهار، كشيطان، وبجانبها خزان تخزين ضخم. على الأقل، هذا ما يراه محبو الطبيعة، وربما معارضة البيئيين المتشددين للنفط لا تعود فقط لمخاوفهم من الكربون، بل احتجاجاً على قبحه البصري!




المحطة الرئيسية لاستخراج النفط في بئر هجليج النفطي قرب بانتيو في أيبي جنوب السودان. المصدر: AFP 


من المثير للاهتمام أن لحقول النفط جانباً جميلاً آخر يصعب، أو يكاد يستحيل، على الغرباء إدراكه. الأشخاص الذين يعملون في هذه الصناعة، خصوصاً من يعملون في العمليات الميدانية، يعرفون هذا الجانب جيداً؛ وقد كنت محظوظاً بتجربته كشخص من  داخله. هناك العديد من حقول النفط في السودان، في الأجزاء الغربية والجنوبية القصوى من البلاد، وقد زرتُ معظمها تقريباً.


أحد الأمور المشتركة في هذه الأماكن هو شعور الانسجام والتعاون بين المجتمعات المحلية المجاورة من الحقول النفطية ومجتمع الحقل نفسه. لن أنسى أبداً عائلات الميركات التي كانت تأتي إلى المعسكر الرئيسي تماماً في الساعة السادسة مساءً وقت الوجبة، وكأنها طاقم عمل تابع لإحدى الشركات! وكانت الطيور تأتي بحثاً عن بقايا الطعام التي يُلقي بها منسقو التموين يومياً.



ميركات يبتسم. المصدر: بينترست


من على منصة الحفر، يمكنك رؤية عدد من الطيور التي تستفيد من الهياكل العمودية العالية لأبراج الحفر وخزانات التخزين. عادةً ما تحتوي حقول النفط على آبار مياه قريبة، يحصل منها السكان المحليون على حاجتهم من المياه، ضمن برامج المسؤولية المجتمعية التي تلتزم بها الشركات المشغّلة. منظر المجتمعات المحلية وهي تجلب المياه لأنفسها وماشيتها مشهد يبعث الرضا. ويغمرُك شعور بالفخر حين تتذكر أنك كنتَ جزءاً من الفريق الذي حفر بئر الماء ذاك.


يكره العاملون في حقول النفط الجوانب السلبية لعملياتها بقدر ما يحتفون بجوانبها الإيجابية. فالأغطية البلاستيكية لبرك الطين التي لا تتحلل، ومداخن الغاز التي تقتل الآلاف من الحشرات الطائرة ليلاً، وكل الانسكابات الكيميائية الأخرى التي تؤثر سلباً على التنوع البيولوجي، كلّها أمور غير مرغوب فيها على الإطلاق. ينبغي على شركات النفط أن تستثمر المزيد في البحث والتطوير لإيجاد حلول مبتكرة لهذه المشكلات، وأن تضع سياسات قوية لحماية البيئة.


ومن المؤسف أيضاً أن مواقع العمل في الحقول شديدة الانعزال عن الضوضاء، لدرجة تجعل من المستحيل تقريباً الاستمتاع بصوت الغابة الهادئ والمريح ليلاً، إذ إنك إمّا أن تكون داخل مقصورتك المعزولة والمملة، أو في الخارج مع الطنين المتواصل للآلات والمحركات. لا مجال للتأمل ولا للصفاء الذهني.


وفيما أسترجع تجاربي كعامل في الحقول النفطية، أستحضر بسعادة زيارات حيوانات الراكون اليومية لمعسكرنا. وأتذكر البدو في هجليج بغرب كردفان، الذين لم تُثنهم ندرة الموارد، وكانت مثابرتهم وذكاؤهم السبب في قدرتهم على الاستمرار في تلك البيئات القاسية. أتذكر كيف كانوا يبادلوننا منتجاتهم القيّمة، وكيف استفادوا من كل ما توفره الحقول النفطية لضمان الراحة لهم ولأبقارهم وأغنامهم وماعزهم.


كانت الأوقات التي كانت فيها طيور اللقلق الكبيرة ذات الأكياس الغريبة تحت أعناقها (والمعروفة محليًا باسم "أبونخريطة") تزورنا كل عصر قرب حقل شريف في شرق دارفور، من الأوقات الجميلة. كما كان مجتمع كرة القدم المحلي في تلك المنطقة يرحّب كثيراً بالعمال.


كل ما سبق مجرد جزء بسيط مما قدمته الحقول، أما الحكايات التي يرويها كبارنا، فهي مذهلة لدرجة يصعب تصديقها! وأودّ أن أقول إن تجربتهم، التجربة الإنسانية، كانت أكثر إلهاماً وروعة من أي إنجاز فني حققوه. فالعامل، في نهاية المطاف، بالكاد يشعر بإسهامه في الاقتصاد الوطني، ولكنّ تفاعلاً بسيطاً مع سكان المنطقة سيبقى راسخاً في ذهنه إلى الأبد.

 

مآسي زمن الحرب

للأسف، تأثرت الكثير من هذه الحقول بالحرب الدائرة في السودان، حيث أصبحت بعضُها، لا سيما الحقول الواقعة في شرق دارفور، خارج الخدمة تماماً، وسيتعين إعادة بنائها من الصفر إذا ما أُريد لها استئناف الإنتاج مرة أخرى.


حقل سفيان النفطي: احتراق صهاريج تخزين النفط بعد هجوم قوات الدعم السريع على القوات المسلحة السودانية التي تؤمن الحقل. المصدر:  أمدر تايمز


نهبت قوات الدعم السريع حقل بليلة النفطي في غرب كردفان، ولاحقاً من قبل آخرين من السكان المحليين. وقد حدث نفس الشيء في حقل سفيان النفطي الذي تم نهبه وتدميره بالكامل. حتى أن مصفاة النفط الوحيدة في البلاد، التي كانت قد احتلتها قوات الدعم السريع، تعرضت لعدة ضربات جوية من قبل القوات المسلحة السودانية، مما أدى إلى خروج العديد من مرافقها عن الخدمة. في البداية، احتلت قوات الدعم السريع المصفاة، ودار قتال عنيف بالقرب منها لمدة تقارب العام، حتى تم استعادتها لاحقاً من قبل القوات المسلحة السودانية. أظهرت لقطات ما بعد الصراع تدميراً كبيراً في بنيتها التحتية، حيث قُدرت خسائر المرافق بنحو 1.3 مليار دولار أمريكي.


آثار الغارة الجوية على مصفاة الجيلي النفطية، المصدر: الراكوبة نيوز


الخسائر المتراكمة


على الرغم من انتقاد الكثيرين لحقول النفط لتقصيرها في الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية، إلا أنها كانت مفيدة بشكل كبير للمجتمعات المحلية. وُلدت في قرية بشرق دارفور، وهي الأقرب إلى حقل سفيان النفطي. منذ بدء الاستكشاف في عام 2003، عندما كنت في السادسة من عمري تقريباً، وحتى عام 2023، شهدت قريتي والقرى والمدن الصغيرة المجاورة تطوراً كبيراً. فقد تم حفر المزيد من الآبار لحل مشكلة ندرة المياه في الصيف، خاصة بالنسبة لمالكي الماشية. كما خفّض توافر الوقود، مثل الديزل، تكلفة استئجار المعدات الزراعية مثل الجرارات، وآلات الزراعة، وآلات التكبيس، والحصادات؛ كما قللت أيضاً تكاليف نقل منتجات المحاصيل النهائية.


بالإضافة إلى ذلك، كان هناك شبكة اتصالات خلوية موثوقة طوال الأشهر الأولى من الحرب، بينما كانت أماكن أخرى في دارفور تعاني بشكل كبير من ضعف الاتصال. علاوة على ذلك، كانت الفرص الوظيفية للشباب المحلي جيدة. ولكن جميع هذه الفوائد اختفت في يوم واحد عندما قررت قوات الدعم السريع مهاجمة حقول النفط. قال لي حيدر، أحد سكان القرية: "لقد فقدنا جميع الخدمات، ونحن نعاني نتيجة لهذه الفوضى."


الحروب لا تجلب معها سوى الدمار، وما حدث لحقول النفط في السودان هو مجرد جزء صغير من الواقع المأساوي الحالي في البلاد. الخسائر الاقتصادية لا يمكن تقديرها. نأمل أن يتحقق السلام، حتى نتمكن من إعادة بناء حقول النفط مرة أخرى مع مزيد من الاهتمام بالبيئة وبرامج المسؤولية الاجتماعية الأفضل. يجب ألا يذهب هذا القطاع الحيوي في البلاد أدراج الرياح.


الريح الرحيمة

الريح كاتب سوداني يتحمس للتفكير في تخصصات متعددة، ويتنقل في عوالم مختلفة من خلال كتاباته في الموسيقى والعلوم والثقافة والتكنولوجيا. يعمل الريح كمهندس في الحقل نفطي.