هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا.


يعيش السودان واحدة من أصعب مراحل تاريخه الحديث، حيث يواجه الشعب السوداني تحديات إنسانية واقتصادية كبيرة نتيجة النزاع المستمر منذ أكثر من عامين. ومع أن البلاد كانت تعاني من أزمات قبل اندلاع الحرب، إلا أن الصراع الحالي عمّق تلك المشكلات وأثر بشكل كبير على الحياة اليومية للمواطنين.


 المدن الكبرى مثل الخرطوم والجزيرة والفاشر تحملت العبء الأكبر من هذه الأزمة، حيث شهدت تدهوراً اقتصادياً كبيراً وحركة نزوح داخلي واسعة النطاق زادت الضغط على الموارد والخدمات. مدينة الفاشر، على وجه الخصوص، أصبحت رمزاً للمعاناة، حيث اجتمعت فيها آثار النزوح والانهيار الاقتصادي والأزمة الإنسانية بشكل غير مسبوق.


 ومع تصاعد الأحداث بعد تحرير الخرطوم في مارس 2025، ازداد الوضع تعقيداً في مناطق غرب السودان . تحرير العاصمة السودانية من سيطرة قوات الدعم السريع لم يكن نهاية للنزاع، بل شكّل نقطة تحول دفعت بالصراع إلى مناطق أخرى، خصوصاً في إقليم دارفور الذي أصبح مركزاً للعمليات العسكرية. التغير في موازين القوى بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أدى إلى اشتداد المعارك في بعض المناطق الاستراتيجية. هذا التصعيد لم يقتصر على الجانب العسكري فقط، بل انعكس أيضاً على الحياة اليومية للسكان الذين باتوا يواجهون تحديات غير مسبوقة في الحصول على الغذاء والمأوى والرعاية الصحية.


الأوضاع في مدينة الفاشر منذ بدء النزاع


شهدت مدينة الفاشر تطورات معقدة ومأساوية منذ منتصف عام 2023 نتيجة النزاع المستمر، حيث باتت المدينة ساحة لتصاعد الاشتباكات العسكرية التي أخذت منحى أكثر عنفاً مع مرور الوقت. تركزت هذه التطورات في حصار كامل فرضته قوات الدعم السريع على المدينة، الأمر الذي أدى إلى تدهور الأوضاع الإنسانية بشكل خطير. فقد تسببت الهجمات المتكررة على المستشفيات في انهيار شبه كامل للنظام الصحي، مما جعل الحصول على الرعاية الطبية أمراً شبه مستحيل. 


إلى جانب ذلك، شهدت المدينة ارتفاعاً كبيراً في الأسعار وأزمة غذاء خانقة، مما زاد من معاناة السكان. كما تعرضت مخيمات النازحين لهجمات مستمرة، ما عمّق الأزمة الإنسانية وأدى إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار.


اشتداد القتال يفاقم من حدة الازمة الانسانية. المصدر: صحيفة ذا ديفينس بوست


حصار الفاشر أبعاد عسكرية واستراتيجية

الفاشر تعد نقطة استراتيجية حيوية في إقليم دارفور، حيث تمثل مركزاً رئيسياً للعمليات العسكرية والإمدادات اللوجستية للجيش السوداني. إسقاط هذه القاعدة العسكرية يترتب عليه تداعيات كبيرة على توازن القوى في المنطقة، إذ يعزل القوات الحكومية ويعطل حركتها بين ولايات دارفور المختلفة. من الناحية الاقتصادية، الفاشر تربط شبكات تهريب بين جنوب ليبيا وغرب السودان، مما يجعل السيطرة عليها فرصة لتأمين التمويل والإمدادات. إضافةً إلى ذلك، تُعتبر الفاشر مركزاً لتجارة المنتجات الزراعية والحيوانية، والسيطرة عليها تعني فرض رسوم وجبايات على حركة هذه البضائع، مما يعزز الموارد المالية.


 أما على الصعيد الإنساني، وجود مستودعات كبيرة لبرنامج الغذاء العالمي ومنظمات الأمم المتحدة في الفاشر يجعلها مصدراً هاماً للإمدادات الغذائية واللوجستية. السيطرة عليها تمنح ميزة استراتيجية لقوات الدعم السريع، حيث توفر الموارد اللازمة لتغذية القوات وتعزيز نفوذها في دارفور. بالتالي، السيطرة على الفاشر لا تحمل فقط أبعاداً عسكرية بل تشمل جوانب اقتصادية وإنسانية تجعلها هدفاً استراتيجياً لأي طرف يسعى لتعزيز هيمنته على المنطقة.


جدول زمني يوضح تطور الأحداث والمعارك حتى بداية الحصار


- منذ منتصف 2023:

كانت الفاشر تشهد اشتباكات متقطعة بين الجيش السوداني (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF)، خاصة في أطراف المدينة.

- أكتوبر – ديسمبر 2023:

ازدادت حدة الهجمات البرية والضربات الجوية في محيط الفاشر، لكن لم تكن المدينة محاصَرة بالكامل بعد.

- نهاية أبريل 2024:

بدأت قوات الدعم السريع تنفيذ حصار ممنهج شبه كامل بإغلاق الطرق الرئيسة المؤدية إلى الفاشر، ومنع دخول الإمدادات الغذائية والطبية.

- مايو – يونيو 2024:

أكدت الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية أن الوضع أصبح حصاراً شاملاً، مع شبه توقف الإمدادات تماماً، ومنع خروج المدنيين. 


خريطة توضح حركة النزوح الداخلي في مناطق وسط وشمال دارفور


المرافق الصحية


تشير التطورات الأخيرة في شمال دارفور إلى تدهور حاد في الأوضاع الصحية نتيجة النزاع المستمر بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، مما يعكس تعقيداً متزايداً للأزمة الإنسانية في المنطقة. ومع تصاعد استهداف المرافق الصحية من قبل قوات الدعم السريع على مستشفى الفاشر التعليمي والمستشفى السعودي وغيرها من المراكز الصحية ، فإن هذا يضع عبئاً كبيراً على النظام الصحي الذي يعاني أصلاً من ضعف البنية التحتية ونقص الموارد، ومع فرض الحصار على مدينة الفاشر، تصبح الخدمات الصحية شبه معدومة، مما يزيد من تعقيد الأزمة الإنسانية ويهدد حياة مئات الآلاف من السكان.


تظهر هذه الصورة الملتقطة بهاتف محمول في 13 ديسمبر 2024 منظراً للمستشفى السعودي بعد هجوم صاروخي في الفاشر. المصدر: شينخوا


إجمالي عدد الهجمات الكبرى


مايو – ديسمبر 2024: هجمات 10 على (مستشفى بابكر نهار، المستشفى الجنوبي، والمستشفى السعودي).


نهاية 2024: توقف أحد المستشفيات الكبرى (المستشفى السعودي) نتيجة سلسلة هجمات.


يناير 2025: مجموع 3 هجمات رئيسية.


إجمالي الهجمات الكبرى (مايو 2024 – يناير 2025): حوالي 13 هجمات كبرى مع إصابات وضحايا موثقة.


الدمار يطال كل شئ حتى المستشفيات والمدارس. المصدر: The New Arab


نقص الغذاء وارتفاع الأسعار


تواجه شمال دارفور أزمة غذائية خانقة، حيث يعاني الأطفال من سوء تغذية حاد، وسط نقص كبير في الإمدادات العلاجية. المناطق المنكوبة مثل الفاشر وزمزم أصبحت في وضع حرج بسبب الحصار المفروض وإغلاق الطرق، مما أدى إلى توقف وصول المواد الغذائية والتجارية.


رغم جهود المنظمات الدولية لتقديم المساعدات، فإن الأوضاع تزداد سوءاً. منذ أواخر عام 2023 بدأت الأسعار ترتفع تدريجياً نتيجة ضعف سلاسل الإمداد، لكن الأمور تفاقمت بشكل كبير في أبريل 2024 مع فرض حصار شامل على الفاشر، حيث شهدت الأسواق ارتفاعًا حاداً في الأسعار. بحلول عام 2025، ومع استمرار القصف ونزوح أعداد كبيرة من السكان، انهارت الأسواق تقريباً، مما جعل الحصول على الغذاء والاحتياجات الأساسية أمراً بالغ الصعوبة.


المطابخ المجتمعية كانت تُطعم 10,000 نازح يومياً في الفاشر. المصدر: اللجنة الدولية للصليب الأحمر


معدل سوء التغذية


تقديرات برنامج الأغذية العالمي ومنظمات الصحة تشير إلى أن حوالي 25–30% من الأطفال في شمال دارفور يعانون من سوء التغذية الحاد العالمي (GAM)، وهي نسبة أعلى من عتبة الطوارئ البالغة 15%. بعض المناطق حول الفاشر ومعسكرات النازحين مثل زمزم وأبو شوك تسجل معدلات قد تصل إلى 35–40% بحسب تقييمات أولية أجريت في مايو–يونيو 2025. أكثر من 80% من السكان في شمال دارفور (ما يزيد عن 2.5 مليون شخص) مصنفون ضمن مرحلتي الأزمة أو الطوارئ (IPC Phase 3 و4). في بعض المناطق الريفية ومناطق النزوح القسري، الأسر تعيش على وجبة واحدة يوميًا، غالبًا دون تنوع غذائي.


متطوعو الصحة يقومون بفحص الأطفال بحثًا عن سوء التغذية خلال حملة التغذية من باب إلى باب التي تدعمها اليونيسف في كسلا. المصدر: اليونيسف


معدل ارتفاع أسعار السلع


شهدت مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار السلع الغذائية الأساسية نتيجة الحصار المتواصل وانهيار سلاسل الإمداد منذ تصاعد النزاع المسلح في 2025. فوفقًا لتقارير تحليل الأمن الغذائي الصادرة عن مراقب السوق في السودان التابع لبرنامج الغذاء العالمي فقد: ارتفع سعر الذرة الرفيعة الى 11,322 جنيه مقارنة بالسنة الماضية 1,333 جنيه ،بنسبة تفوق 749% مقارنة بالعام السابق، وهو ما يعكس تضخماً حاداً في تكلفة الغذاء المحلي.


سجّلت أسعار الدخن زيادات تتراوح ما بين 180% إلى 220%، متأثرة بتراجع الإنتاج المحلي وتعطّل الأسواق. وارتفع سعر دقيق القمح الى 26,500 جنيه مقارنة بالسنة الماضية 3,000 جنيه ,بنسبة تفوق 783%، مما جعل الخبز – السلعة اليومية الأساسية – خارج متناول معظم السكان. وسجل زيت الطهي والسكر أيضاً زيادات تقارب 100–140% سنوياً.

صورة قديمة لتجار يبيعون الذرة في شرق دارفور. المصدر: فليكر


استهداف مخيمات النازحين


تعكس الأوضاع الإنسانية في شمال دارفور، ولا سيما في مخيمات النزوح مثل مخيم زمزم ومخيم أبوشوك، أزمة إنسانية مركبة تتفاقم بفعل القصف المستمر من قبل قوات الدعم السريع . في أبريل ومايو 2025، اضطر عشرات الآلاف للنزوح من جديد نحو طويلة والمناطق النائية، مما يعكس ديناميكية النزوح المتكررة.


علاوة على ذلك، وثقت منظمات إنسانية انتهاكات جسيمة شملت أعمال عنف ونهب ممنهج للمتاجر والمخازن ومرافق الغذاء داخل المخيمات، مما أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية بشكل كبير. ساهم الحصار المفروض على مدينة الفاشر في قطع الإمدادات الضرورية، بما في ذلك المساعدات الغذائية والطبية، مما أدى إلى تفاقم سوء التغذية ونقص الأدوية. 


استهداف المخيمات بالأرقام


مخيم زمزم الذي يقع في ولاية شمال دارفور، على بعد 12 كيلومتراً جنوب مدينة الفاشر عاصمة الولاية، وهو أحد اكبر مخيمات النازحين داخلياً في السودان. فوفقاً لتقارير النزوح نزح حوالي 500 ألف شخص – بما في ذلك 260 ألف طفل بين أبريل ومايو، مما يشكل 99% من سكان المخيم. بينما نزح 75% من سكان المخيم إلى محلية طويلة و10% إلى الفاشر.


تعرضت كثير من الأسر للنزوح المتكرر، إذ نزحت أولاً من مخيم زمزم ثم واجهت نزوحاً ثانوياً داخل مدينة الفاشر. وتشير التقديرات الأولية إلى سقوط أكثر من 700 قتيل وجريح في المخيمات منذ مطلع عام 2024. كما تُقدَّر أعداد النازحين في معسكر أبو شوك ومحيطه بنحو 120 ألف شخص حتى بداية يونيو 2025. وفي المخيم نفسه، سُجّل أكثر من 50 قتيلاً وجريحاً بين يناير ومايو نتيجة القصف والاشتباكات القريبة، ليصل إجمالي الضحايا منذ بداية العام إلى ما لا يقل عن 70 قتيلاً ومصاباً، مع احتمال أن يكون العدد الفعلي أعلى نظراً لصعوبة الوصول وتوثيق الحالات.


نازحون فروا من مخيم للنازحين داخلياً بعد سقوطه تحت سيطرة قوات الدعم السريع، يقفون في طابور للحصول على طعام قرب بلدة طويلة في إقليم دارفور غرب السودان. المصدر: فاينانشال تايمز


من العاصمة الى شمال دارفور


شهدت الأوضاع في السودان تحولاً جذرياً في أعقاب تحرير الخرطوم في السادس والعشرون من مارس 2025، حيث أدى هذا الحدث إلى إعادة تشكيل خريطة السيطرة العسكرية داخل البلاد. كان لإعادة تموضع قوات الدعم السريع نحو إقليم دارفور أثر كبير في تصعيد العمليات العسكرية هناك، مما جعل الإقليم مركزاً لصراع مكثف. تشير التقارير إلى أن مدينة الفاشر كانت واحدة من أكثر المناطق تضرراً، حيث شهدت سبع معارك كبرى خلال فترة قصيرة لا تتجاوز خمسة أشهر.


هذا التصعيد العسكري لم يقتصر تأثيره على الجانب الأمني فحسب، بل امتد ليشمل الجانب الإنساني، حيث أدى إلى نزوح أكثر من 150 ألف شخص بين مارس ويونيو 2025، وهو معدل نزوح غير مسبوق يعكس تفاقم الأزمة في تلك المنطقة. بعد فبراير 2025، تضاعف معدل النزوح تقريباً مقارنة بالأشهر السابقة، نتيجة التصعيد العسكري وتوسع المعارك في مدينة الفاشر ومحيطها.


حركة النزوح وشدة المعارك بعد تحرير الخرطوم


شهدت مدينة الفاشر ومحيطها موجات نزوح واسعة خلال عام 2025 نتيجة تصاعد الصراع في السودان، حيث بدأ الأمر بعد إعلان الجيش السوداني في مارس 2025 عن "تحرير الخرطوم"، مما أدى إلى انتقال المواجهات نحو دارفور، خاصة في الفاشر. وفي أبريل من نفس العام، تسبب اقتحام مخيمي زمزم وأبو شوك في نزوح ما بين 400,000 إلى 450,000 شخص إلى مدينة طويلة ومناطق قريبة من الفاشر. ومع استمرار العنف، نزحت 257 أسرة إضافية في مايو باتجاه مدن شمال دارفور بسبب القصف المتواصل. وفي شهري يونيو ويوليو، وصل عدد النازحين إلى بلدة طويلة وحدها حوالي 379,000 شخص وفق تقييمات المنظمات الإنسانية، مما يعكس حجم الأزمة التي حولت الفاشر والمخيمات المحيطة بها إلى مناطق نزوح جماعي خلال فترة قصيرة.


صوت من قلب الفاشر


في إحدى اللقاءات المؤثرة، شاركتنا مواطنة من مدينة الفاشر تفاصيل قصتها المؤلمة التي بدأت مع الحصار والقصف المكثف الذي ضرب الأحياء السكنية في مدينتها. وجدت نفسها مضطرة للنزوح إلى بلدة طويلة بحثاً عن الأمان، بعد أن أصبحت الحياة في المدينة شبه مستحيلة. تحدثت عن الأيام الصعبة التي قضتها وسط الخوف وانعدام الاستقرار، وعن القرار الصعب الذي اتخذته للخروج رغم المخاطر. خلال رحلتها، واجهت تحديات كبيرة وشاهدت مشاهد مؤلمة تركت أثراً عميقاً في نفسها، لتكون تجربتها شهادة على معاناة الكثيرين الذين يعيشون ظروفاً مشابهة.


 قبل الحصار: أسواق مفتوحة وحياة ممكنة


قبل أن يبدأ الحصار على الفاشر، كانت الحياة تبدو مختلفة تماماً، تتذكر كيف كانت الأسواق تنبض بالحياة، وكيف كانت البضائع تأتي من كل مكان: من الدبة ومليط، ومن خزان جديد والطينة، وحتى من جبل مرة. كان التنوع في السلع الزراعية والمواد الغذائية، والأسعار كانت معقولة، بحيث يستطيع الجميع شراء ما يحتاجون إليه دون عناء.


المستشفى الوحيد تحت نيران القصف


في حديثنا عن الجانب الصحي في الفاشر تقول المواطنة: "ان الوضع الصحي مأساوي للغاية. المستشفى السعودي هو الوحيد الذي لا يزال يعمل، لكنه يتعرض للقصف بصورة متواصلة، مما يزيد من صعوبة تقديم الخدمات الطبية. الأدوية المنقذة للحياة غير متوفرة تمامًا، والكوادر الطبية القليلة المتبقية تبذل جهودًا جبارة للعمل وسط هذا القصف المستمر. لا يمكن وصف شعور العجز الذي يعيشه المرضى والأطباء على حد سواء في ظل هذه الظروف القاسية التي يعيشونها."


بين اليأس والأمل: حكاية انتظار وصول المساعدات


في ما يتعلق بالجانب الإنساني وصفت إن هناك انعدام تام لما يسمى بممرات انسانية، وصعوبة في وصول المساعدات، في الحقيقة الوضع مأساوي للغاية، الممرات الإنسانية شبه معدومة، والطريق الغربي عبر تشاد وجبل مرة طويل وصعب للغاية. المساعدات التي تصل تكاد تكون محدودة جداً ولا تكفي احتياجات النازحين في المعسكرات مثل طويلة ودارالسلام وخزان جديد وشنقل طوباي، حيث لا توجد أي خدمات تُذكر. آلاف الأسر تعيش في ظروف قاسية، بلا أماكن إيواء، في العراء. والأمر لا يتوقف هنا، فهناك ندرة كبيرة في الخدمات الصحية في معظم المناطق، والكوليرا تنتشر بشكل مخيف.


المعسكرات تحترق: استمرار مسلسل النزوح


لم تكن المعسكرات ملاذاً آمناً كما أمل الناس. مع استمرار القصف واتساع رقعة الهجمات، تحولت بعض هذه المعسكرات إلى ميادين حرب، وأُجبرت آلاف الأسر على النزوح منها مرة أخرى، بلا مأوى، بلا وجهة، وبخوف مضاعف. معسكر زمزم، تم إخلاؤه بالكامل بعد ستة أيام من الهجوم المتواصل. لم تسلم الخيام، ولا خزانات المياه، ولا حتى الأطفال. تلاه معسكر السلام (أبوجا) في الفاشر، الذي تحوّل إلى أرض معركة مفتوحة، لم يعد يصلح حتى للمرور. أما معسكر أبوشوك، فقد تعرّض لإخلاء جزئي، لكنه الآن يعيش تحت القصف شبه اليومي، والحياة فيه أصبحت شبه مستحيلة.


هذه الكارثة تعني أن آلاف النازحين وجدوا أنفسهم ينزحون من أماكن نزوحهم، ليبدأوا من جديد رحلة مجهولة، دون أي ضمانات، ودون مأوى أو غذاء أو حماية.


رحلة المعاناة من الفاشر الى طويلة


تصف المواطنة رحلتها من الفاشر إلى طويلة والتي تبعد 64 كيلومتر غرباً: "واحدة من أصعب التجارب التي مررت بها في حياتي. الطريق هناك يشبه طريق الفرصة الأخيرة، حيث يختلط فيه الأمل بالخوف في كل لحظة. تعرضتُ لسرقة هاتفي أثناء الرحلة، وكان ذلك مجرد جزء صغير من المعاناة التي رأيتها بأم عيني. الأطفال والكبار كانوا يموتون بسبب العطش، مشهد لا يمكن أن أنساه أبدًا. عمليات النهب والاغتصاب والاختطاف مقابل المال كانت تحدث بشكل مروع، الرجال والشباب كانوا مستهدفين بشكل خاص، حيث تعرضوا للقتل والأسر بلا رحمة".


“الوضع العام كارثي للغاية. آلاف المواطنين في العراء ومُعرضين للإصابة بالأمراض والنزوح من جديد لو الحرب دي ما وقفت. حتى بلدة طويلة ما آمنة على المدى البعيد. الحكومات والجهات المتحاربة المفروض تشوف حلول سلمية وتتفاوض، لأنو خلاص المواطن وصل لحد بعيد في الإهانة والاستغلال والقتل والتشريد.” مواطنة من الفاشر.


"الإحصاءات ليست مجرد أرقام؛ إنها أرقام تحمل سياقًا ومعنى." - جوردن إلينبرغ، كيف لا تكون مخطئًا


أن الأرقام قد تُظهر حجم المأساة، لكنها لا تنقل الألم، ولا تعبّر عن المعاناة التي يعيشها الناس لحظة بلحظة. تتجلى الأزمة الإنسانية في السودان كواحدة من أكثر المآسي تعقيداً في المنطقة، حيث تتقاطع الأبعاد السياسية والعسكرية مع التداعيات الاجتماعية والاقتصادية، لتشكّل واقعاً مأساوياً يعصف بحياة المدنيين. إن الحصار المفروض على مدينة الفاشر يعكس نهجاً ممنهجاً لإضعاف السكان، عبر حرمانهم من أبسط مقومات الحياة، مما يفاقم معاناتهم اليومية على نحو يفوق الوصف. وما يحدث في شمال دارفور ليس مجرد أزمة؛ إنه كارثة إنسانية تضرب حياة مئات الآلاف، لا يمكن اختزالها في بيانات أو حصرها في تقارير.


الطيب حاج أحمد

الطيب حاج أحمد الطيب هو باحث ومحلل بيانات مقيم في السودان وله اهتمام بمواضيع تنموية مختلفة. قبل اندلاع الحرب في السودان كان يسعى لنيل درجة الماجستير في الرياضيات من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا.