مقدمة
تقع بورتسودان على ساحل البحر الأحمر في ولاية البحر الأحمر بشرق السودان، وهي العاصمة التجارية والبحرية للبلاد، ومساحتها المناخية شبه صحراوية تتسم بندرة الأمطار واعتماد النقل البحري، مع إنتاج مياه محلي محدود عبر تحلية المياه من وادي أربعات ومحطات تحلية . نشأت المدينة عام 1909 كميناء حديث خلال الحقبة البريطانية-المصرية المشتركة، إذ شُيدت من العدم لتكون بوابة السودان إلى شبكة التجارة العالمية عبر البحر الأحمر.
البيئة والسياحة التاريخية
لطالما كانت بورتسودان بمثابة بوابة للسياحة البيئية، تقدم شواطئ نظيفة ومياه دافئة وغوصاً بين الشعاب المرجانية. وقد بلغ قطاع السياحة حوالي 2.4٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2019، مع 591,000 سائح دولي في عام 2013 مقابل 29,000 زائر فقط في 1995، مما يشير إلى نمو تدريجي رغم تذبذب الأوضاع الأمنية.
ثقافة البجا وتركيبة المدينة
تمثل مجتمعات البجا السكان الأصليون للمنطقة أكثر من 65٪ من سكان ولاية البحر الأحمر البالغ عددهم نحو 1.48 مليون نسمة في 2018، ويعيش تركيز كبير منهم في بورتسودان. البجا، الذين يتحدثون اللغة الكوشية بدهاويت، كانت لهم أنماط عيش ترتكز على الرعي والصيد والتجارة القديمة، وتظهر مظاهرهم في أحياء مثل ديم العرب وأم الحصاني، حيث تجمعاتهم واتصالاتهم الأسرية مستمرة رغم التغيرات الحضرية.

قبائل البجا: المصدر: نفيسة حبيب
العمارة الحضرية والطابع العمراني
تمتاز بورتسودان بتنوع بين العمارة الحديثة التي ظهرت في المناطق المركزية، والمباني التقليدية للبجا المبنية من الطين والقش في الأحياء القديمة. الأحياء التقليدية خاصة في ديم العرب تتميز بمنازل منخفضة الطابقين، بسيطة التصميم، تُجهز بأسطح مسطحة تعكس النمط البيئي الصحراوي القاحل.

النمط البيئي الصحراوي القاحل في أركويت بورتسودان. المصدر: Sudan in Photo
أثر الحرب، انهيار السياحة وتغيرات المدينة
منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، شهدت بورتسودان تحولات جذرية على كل الأصعدة. فقد انخفض عدد السياح الدوليين إلى أقل من
15% من مستواه قبل الحرب، إذ كان عدد السياح في 2019 يبلغ حوالي 600,000 زائر سنوياً، بينما توقفت الرحلات الجوية الدولية إلى المدينة بشكل شبه كامل بحلول منتصف 2024. أدت هذه الانقطاعات إلى إغلاق أكثر من 70% من الفنادق والمرافق السياحية في المدينة.
على الصعيد الديموغرافي، استقبلت بورتسودان أكثر من 550,000 نازح داخلي من مناطق النزاع مثل الخرطوم ودارفور بحلول بداية 2025، ما رفع عدد سكان المدينة من حوالي 420,000 نسمة قبل الحرب إلى ما يقارب 970,000 نسمة. هذا التدفق أدى إلى ضغوط كبيرة على الخدمات الصحية والتعليمية والبنية التحتية، حيث أُفيد بأن 60% من المدارس والمستشفيات في بورتسودان تعاني من نقص حاد في الموارد، مع ارتفاع في معدلات البطالة التي تجاوزت 40% وسط السكان المحليين والنازحين على حد سواء.
اقتصادياً، تراجع الناتج المحلي الإجمالي لولاية البحر الأحمر بنسبة 35% في 2024 مقارنة بعام 2022، مع انخفاض حاد في عائدات قطاع السياحة والتجارة البحرية بسبب تضرر الميناء الرئيسي ووقف العديد من الأنشطة الاقتصادية. كما أثرت الحرب على نشاطات التجارة التقليدية التي كان يعتمد عليها سكان البجا المحليون، مما أدى إلى تزايد الفقر والتهميش في الأحياء القديمة مثل ديم العرب وأم الحصاني.
أما على المستوى الإنساني، فقد وصفت الأمم المتحدة الوضع في بورتسودان بأنه أزمة إنسانية حادة، مع نقص حاد في الغذاء والمياه الصالحة للشرب، حيث تعيش أكثر من 55% من الأسر في ظروف انعدام الأمن الغذائي الحاد. إضافة إلى ذلك، تكررت الهجمات الجوية بطائرات مسيرة على المدينة في مايو 2025، مما أدى إلى تعطيل خدمات الكهرباء والمطارات وتعقيد عمليات توزيع المساعدات الإنسانية.
هذه المؤشرات كلها تظهر مدى الانهيار الحاصل في قطاع السياحة وتحولات بورتسودان من وجهة سياحية ومدينة تجارية مزدهرة إلى ملاذ نزوح وطابع ديموغرافي جديد، يعكس تحديات كبيرة على صعيد التنمية المستقبلية.
السياحة المحلية، فرصة واقعية وسط الانهيار
بعد عامين من الحرب الطاحنة في السودان بدأت السياحة الدولية تتوقف تماماً، إلا أن السياحة المحلية في بورتسودان برزت كخيار عملي للإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي، رغم كل ما تمر به البلاد من أزمات. ففي خضم النزوح الداخلي والضغط السكاني، تحوّل كثير من السكان المحليين والنازحين إلى السفر داخل البلاد كملاذ مؤقت للراحة والإعاشة.
بحسب تقرير لهيئة السياحة السودانية، كانت مناطق شواطئ البحر الأحمر، خصوصاً في بورتسودان وسواكن، مقصداً رئيسياً للسياحة الداخلية، ليس فقط من الخرطوم بل من مختلف ولايات السودان، خاصة خلال مواسم الشتاء ذات المناخ المعتدل وشواطئ نظيفة وشعاب مرجانية متنوعة. ومن خلال مهرجان التسوق والسياحة السنوي الذي يتم تنظيمه في ولاية البحر الأحمر، ارتفعت معدلات الزوار المحليين إلى أرقام قليلة الآلاف في موسم الذروة (حوالي 3,000–4,000 زائر داخلي وسائح خليجي عربي في 2023)، مما دعم بعض النبض الاقتصادي المؤقت.

رجل يبيع الأصداف البحرية والشعاب المرجانية وسط سواكن. المصدر: I Stock Photo
من بين الأكثر من 500 ألف شخص من داخل السودان الذين نزحوا إلى بورتسودان منذ منتصف أبريل 2023، ركّز معظمهم نشاطه على الأسواق، المقاهي، والشاطئ، ما نشّط الحركة الاقتصادية المحلية فجأة في ظل تراجع النشاط المينائي والصناعي. يحصل هذا رغم أن الزوار لم يقصدوا المدينة كسياحة، بل كمأوى أو مسار عبور، إلا أن هذا الضغط خلق “سياحة محروقة”، بمعنى زيارة مكان كسياحة محلية وليس دولية، لكنها أثارت النشاط في سلسلة الفنادق الصغيرة، الأسواق، ومحلات الطعام. أنماط الاستهلاك المحلي ارتفعت بشكل مضاعف: ايجارات الشقق ارتفعت من 300,000 جنيه للشقة إلى أكثر من مليون جنيه شهرياً، ما بين الإيجار الفندقي والمأوى المؤقت مثل المدارس والمساجد وبدأت بعض العائلات تتقاسم الغرف والمساجد بسبب نقص السكن الرسمي.
هذه الديناميكية بدأت في رسم ملامح مرحلة جديدة، رغم الانهيار الرسمي، ظهرت بورتسودان كعنقودية للسفر المحلي، حيث يغلب النشاط الاقتصادي الواقعي على التضخم المفاجئ في الطلب. مثل هذه العودة إلى السياحة المحلية حتى إن كانت اضطرارية قد تمثل أرضاً خصبة لاحقاً لتطوير برامج مستدامة للسياحة البيئية، ثقافية، أو مجتمعية، إذا ما تم تنظيمها وتوجيهها، خصوصاً إذا ما بدأ استقرار الأوضاع الأمنية وتوفر عناصر التنظيم والدعم الحكومي أو الدولي للسياحة الداخلية المدعومة.
أبرز المواقع السياحية في بورتسودان
محميات الغوص والشعاب المرجانية: جنة تحت الماء
محمية سنقنيب البحرية
تقع نحو 25 كم شمال شرق مدينة بورتسودان، وتُعد أول محمية بحرية معلنة رسميًا في السودان منذ عام 1990، وواحدة من أبرز معالم الغوص في البحر الأحمر. تتميّز بأنها الوحيدة على شكل "أتول" في البحر الأحمر، مع ما لا يقل عن 13 منطقة حيوية مختلفة، وشعاب مرجانية تنحدر من أعماق تصل إلى 800 متر، مما يمنح الغواصين مناظر بحرية مذهلة تحبس الأنفاس .
تحتضن المحمية نظاماً بيئياً غنياً للغاية، مع أكثر من 120 نوعًا من المرجان، و251–300 نوعاً من أسماك الشعاب الرائعة، إلى جانب أسماك قرش (بما فيها قرش المطرقة)، ودلافين، وسلاحف، وشعاب نادرة، وعدد من الأنواع المهددة والمهاجرة. كما يحتضن الموقع أحد آخر تجمعات الدوقونغ البحرية (حيوان البحر الأحمر المهدد) في الحوض الإقليمي، ضمن منتزهه المشترك مع خليج دنقناب.
من أبرز معالم الزوار التاريخية منارة سنقنيب، التي بُنيت على يد البريطانيين بين 1958 و1964 بارتفاع 50‑54 متراً وتتكون من 268 خطوة، ويمكن زيارتها بترتيب مسبق مع مشغلي الغوص . وتوفّر هذه المنارة إطلالات ساحرة على المياه الفيروزية للشعاب المرجانية.

منارة سنقنيب المرجانية بالقرب من بورتسودان، على البحر الأحمر، في محمية سنقنيب الوطنية. المصدر: I stock Photo
في عام 2016، نالت المحمية وخليج دنقناب (جزيرة موكووار) الاعتراف العالمي كموقع تراث عالمي من اليونيسكو بفضل قيمتها الجمالية والبيئية الفريدة، حيث تم تصنيفها ضمن معاييرvii، ix، x المتعلقة بالمناظر الطبيعية الخلابة، والعمليات البيئية التطورية، والمحافظة على التنوع البيولوجي. وتُعد زيارة سنقنيب تجربة ساحرة لعشاق الغوص والسياحة البيئية، لما تُقدّمه من لقاء حميم مع واحدة من أنقى المنظومات البحرية في العالم.
شعاب دنقناب وشعاب الرومي
تشكّل منطقة خليج دنقناب – جزيرة موكووار مكملاً لمحمية سنقنيب ضمن نفس موقع التراث العالمي، وتضم شعاباً مرجانية وسافانا بحرية، وغابات مانغروف مهددة. وتشتهر بموقعها كمنطقة تعشيش للدوقونغ، إلى جانب أسراب من الطيور المهاجرة مثل الفلامنغو وطيور النحام الوردي، إضافة إلى سلالات نادرة من أسماك الشعاب والمناظر الطبيعية الفريدة.

الشعب المرجانية والأسماك الملونة التي تشتهر بها سواحل بورتسودان. المصدر: مجلة نون بوست
جزر التاريخ والجمال الطبيعي
جزيرة سواكن
تقع جزيرة سواكن قبالة ساحل البحر الأحمر الشرقي بالسودان، وتُعد موقعاً تاريخياً وأثرياً بارزاً يعود للعصور الوسطى والعثمانية. كانت مدينة ساحلية مزدهرة تجارياً ودينياً، وشكّلت نقطة عبور رئيسية للحجاج والتجارة بين إفريقيا والحجاز. من أبرز معالمها جامع سواكن التاريخي، والذي بني من الحجر المرجاني، ويعتبّر عمقاً عن الطراز المعماري الإسلامي العثماني وتاريخ التجارة البحرية. بالإضافة إلى ذلك، تضم الجزيرة عدداً من المدارس والزوايا والخلاوي ذات التصميم المتميز، والتي تعكس تواصل الحاضر بالماضي عبر استمرار التراث الديني والاجتماعي في المدينة القديمة.

مسجد سواكن التاريخي المبني من الحجر المرجاني. المصدر: iStock Photo
المنتزهات والمنتجعات الطبيعية
منتجع أركويت
يُعد منتجع أركويت المصيف الجبلي الواقع على ارتفاع بين 1000‑1200 متر بالقرب من بورتسودان، ملاذاً طبيعياً رائعاً لهواة نسمات الجبال وزيارة الطبيعة المرتفعة، بعيداً عن حرارة السواحل. تحيط به التلال المشجرة وتضاريس صحراوية ساحرة، ويُعرف بأنه جنة الله في السودان بين محبي الطبيعة والتصوير.

أركويت بورتسودان. المصدر: Sudan in Photo
قرية عروس السياحية
يقع منتجع أو قرية عروس السياحية على ساحل البحر الأحمر شمال مدينة بورتسودان، ويُعد من أجمل المواقع السياحية البحرية في السودان، حيث يجمع بين الطبيعة البكر والتاريخ الغامض. يتميز المنتجع بشواطئه البيضاء الهادئة وخليجه المحاط بالشعاب المرجانية، مما يجعله موقعاً مثالياً لهواة الغوص و السنور كلينغ، وسط شعاب نادرة وأسماك ملونة ومياه صافية.
وتوفر المنطقة تجربة إقامة بسيطة على الطراز البيئي، من خلال أكواخ وخيام شاطئية تمنح الزائر شعوراً بالانفصال عن صخب المدينة والاقتراب من سكينة البحر. كما يضم المنتجع مطعماً محلياً يقدم وجبات بحرية طازجة ومقهى تطغى عليه الموسيقى والأجواء المريحة، وغالباً ما يشهد نشاطاً ليلياً بسيطاً يعكس روح الحرية والانطلاق. يُذكر أن منتجع عروس كان في الثمانينيات موقعاً لعملية استخباراتية شهيرة استخدمها الموساد الإسرائيلي كواجهة غوص لتهريب يهود الفلاشا من إثيوبيا، ما يُضفي على المكان بعداً تاريخياً غامضاً يزيد من جاذبيته للسياح والباحثين عن القصص الفريدة. بهذا المزيج بين الجمال الطبيعي والسرد التاريخي، يتحوّل منتجع عروس إلى إحدى أجمل الوجهات في السودان وأكثرها تفرّداً.

منتجع عروس السياحي. المصدر: Seashell Sudan Page
معالم المدينة الحضرية والثقافية
كورنيش بورتسودان
يُعد كورنيش بورتسودان الجلد البحري الرمزي للمدينة، بممشى أصفر تصطفه النخيل، تمتد على طول ساحل البحر الأحمر، وتُوفّر مناظر استثنائية لغروب الشمس وأفق البحر. هنا يجتمع السكان المحليون على مقاهي الشاي، وتتواجد الأكشاك البسيطة، وتحلو نزهات المساء وسط نسيم البحر والحياة اليومية للسودانيين.
متحف بورتسودان البحري
يقع المتحف البحري، المعروف أيضاً باسم متحف البحر الأحمر البحري أو Port Sudan Aquarium، على الكورنيش الرئيسي في بورتسودان. افتُتح عام 2014 كمبادرة مشتركة بين كلية علوم البحار والمصائد بجامعة البحر الأحمر وحكومة الولاية. يُعد هذا المتحف الأول من نوعه في السودان، ويعرض مجموعة كبيرة من الكائنات البحرية: أكثر من 300 نوع من الأسماك واللافقاريات بالإضافة إلى نماذج من الجيولوجيا البحرية وأدوات الصيد التقليدية، مع خطط مستقبلية لإضافة حوالي 5000 نوع إضافي. يفتح المتحف أبوابه أمام الجمهور والبعثات الرسمية بأسعار رمزية لريع يخصص لتطوير المتحف وتغطية نفقات صيانة الكائنات البحرية.

المتحف البحري بورتسودان. المصدر: أمنية حسن
التحديات التي تواجه النهوض بالسياحة
تواجه بورتسودان تحديات ضخمة على طريق إعادة بناء قطاع السياحة، وسط أزمات إنسانية واقتصادية عميقة، لا تقل أهمية بعضها عن عمق الأزمة القومية. كل من البنية التحتية الاجتماعية، والاستقرار الأمني، والقدرة على جذب الاستثمار، باتت تحت ضغط غير مسبوق.
أولاً: الانهيار الاقتصادي الشامل الذي ضرب السودان. فقد انكمش الناتج المحلي الإجمالي عام 2023 بنسبة حوالي 40٪، ومن المتوقع انخفاض إضافي بنسبة 28٪ في 2024، بينما تقلصت الإيرادات الحكومية بنحو 80٪، وانتشر التضخم الحاد الذي ضاعف الأسعار بنحو 250٪ في ظل انهيار قيمة الجنيه السوداني وارتفاع سعر الصرف في السوق السوداء إلى SDG 1250 للدولار بحلول فبراير 2024 . هذه الأزمة أدّت إلى تراجع الاستثمارات في السياحة والفنادق ومنع استيراد المواد الأساسية.
ثانيا: أزمة الخدمات الأساسية والبنية التحتية. بسبب الحرب تعرضت منشآت حيوية مثل المطار الرئيسي، المحطات الكهربائية، ومستودعات الوقود لقصف بالطائرات المسيّرة في مايو 2025، ما أدى لانقطاع الطاقة وتعليق الرحلات الجوية مؤقتاً. كما أن أكثر من 70٪ من المرافق الصحية في مناطق النزاع أغلقت، وأكثر من 60٪ من الأراضي الزراعية باتت غير صالحة للعمل، مما أسهم في تفاقم الانعدام الغذائي وانهيار الخدمات الأساسية.
ثالثاً: الأزمة الإنسانية والنازحين. يعيش أكثر من 8.8 مليون نازح داخلي، بالإضافة إلى 3.5 مليون لاجئ خارج السودان، مما جعل السودان أكبر دولة مكتظة بالنازحين داخلياً في العالم. آلاف منهم يقيمون في بورتسودان، حيث يشهد السكان ضغطاً هائلاً على السكن والتعليم والرعاية الصحية، مع ارتفاع معدلات البطالة والفقر والزواج المبكر لدى الفتيات النازحات.
رابعا: تدهور النظام الصحي والرفاه. الصحة العقلية والكلفة المرتفعة للرعاية أصبحت عائقاً كبيراً، خاصة مع غياب قطاع الصحة النفسية (يوجد أقل من 34 طبيب نفسي عام و4 مختصين بالأطفال في البلاد قبل الحرب)، وانتشار اضطرابات ما بعد الصدمة، والاكتئاب والقلق لدى 57٪ من السكان نتيجة الجوع والصراع.
خامساً: الهشاشة المؤسسية وفقدان الثقة العامة. السياحة تحتاج إلى بيئة آمنة ومستقرة، لكن الصورة السودانية الخارجية مشوهة بفعل الحروب ونهب الآثار: المتاحف الوطنية تعرضت للنهب بمئات الآلاف من القطع الأثرية، وعدد من مواقع التراث مثل مروي والناقة تعرضت للهجمات والدمار، مما أتاح اتجار آثار على نطاق واسع.
سادساً: المناخ والتحديات البيئية. في أغسطس 2024، انهيار سدّ أربعات أدى إلى فيضانات دمّرت نحو 20 قرية قرب بورتسودان، وشردت قرابة 50,000 شخص، ما تسبب في أزمة مياه شرب للمدينة التي تعتمد عليه بشكل رئيسي.
كل هذه العوامل تبين أن الطريق نحو استعادة الوجه السياحي لبورتسودان محفوفة بالتحديات الهيكلية. بدون استقرار سياسي وتحسين الخدمات الأساسية، وإصلاح البنية التحتية، وتطوير استراتيجية ترويجية محلية وعالمية، فإن أي محاولة للنهوض بالقطاع ستواجه عقبات ضخمة، بغض النظر عن وجود الشواطئ الطبيعة التي كانت بورتسودان تعرف بها يوماً.
بوادر النهوض السياحي في بورتسودان

ميناء بورتسودان. المصدر: I Stock Photo
رغم ما خلّفته الحرب من دمار واسع وتراجع كبير في الحركة السياحية، لا تزال شركات السياحة المحلية تضيء شمعة وسط العتمة، لتؤكد أن بورتسودان تملك مقومات النهوض من جديد. شركات مثل Travel Sudan Tours وReal Sudan وSoviet Tours التي لعبت دوراً محورياً في الحفاظ على نبض السياحة داخلياً خلال الحرب، من خلال تنظيم رحلات الغوص على سواحل البحر الأحمر، وجولات إلى المواقع الأثرية في سواكن، بالإضافة إلى الترويج للسياحة الثقافية والتجريبية، مثل زيارة الأسواق المحلية والتعرف على تقاليد البجا، وتذوق المأكولات البحرية الفريدة.
وبالإضافة إلى ذلك، يمثل مشروع عروس البحر الأحمر الذي تم توقيع أتفاقية بشأنه بين مجلس السيادة وشركة العقارات الكويتية في يوليو 2025، أحد المشاريع السياحية الواعدة التي يمكن أن تسهم في نهضة القطاع مستقبلاً. يهدف هذا المشروع إلى تحويل ساحل البحر الأحمر إلى وجهة سياحية عالمية، من خلال إنشاء منتجعات فاخرة، وموانئ لليخوت، ومرافق ترفيهية متكاملة، مع الحفاظ على البيئة البحرية والتنوع البيولوجي المميز للمنطقة. ورغم تعثر تنفيذ المشروع بسبب الحرب، إلا أن استئنافه بعد استقرار الأوضاع قد يكون نقطة تحول كبرى، تعيد بورتسودان إلى دائرة الاهتمام العالمي، وتوفر فرص عمل واسعة، وتنعش الاقتصاد المحلي من خلال استقطاب الاستثمارات والزوار.
ومع تزايد الآمال بانتهاء الحرب وبدء مرحلة إعادة البناء، تلوح في الأفق إمكانيات حقيقية لنهوض السياحة ليس فقط في بورتسودان، بل في السودان كله. فالموقع الجغرافي الفريد، وتنوع الطبيعة، وثراء الثقافة السودانية، كلها عناصر تؤهل البلاد لتكون وجهة سياحية مستدامة ومزدهرة. إن استثمار ما تبقى من بنى تحتية، وتعزيز السياحة المجتمعية، والانفتاح على أسواق جديدة، يمكن أن يحوّل بورتسودان إلى بوابة أمل تعيد للسودانيين ثقتهم في أن ما بعد الحرب، قد يكون أجمل.