يُمثل الفساد في التعليم العالي وباء عالمي متصاعد، مُلاحظ في كلٍّ من الدول المتقدمة والنامية. وتشير التقديرات إلى أن حجم المعاملات الاحتيالية في مؤسسات التعليم العالي حول العالم يتراوح بين 1.5 و2.5 مليار دولار. تبدأ سلسلة الفساد من القمة في القطاع السياسي، حيث يحمل بعض القادة شهادات مزوّرة، مروراً بتحويل ميزانيات التعليم العالي، والفساد البيروقراطي والإداري في إدارة الجامعات، وصولاً إلى الغش الأكاديمي والاستغلال الجنسي.
الفساد في مؤسسات التعليم يُفسد جوهر العملية التعليمية والتربوية. المصدر: بينترست
أحد أسباب تفشّي الفساد في قطاع التعليم هو أن الشهادة الجامعية تُعَدّ في العديد من المجتمعات الإفريقية بمثابة جسر للوصول إلى الوظائف الجيدة، والمناصب القيادية، والمكاسب المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، فإن أرقى مؤسسات التعليم العالي شديدة الانتقائية ولا تقبل سوى نسبة ضئيلة من الكمّ الهائل من الطلبات التي تتلقاها. وهنا تتحوّل العملية برمّتها إلى ساحة خصبة للاستغلال بمختلف أشكاله، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
ومن الضروري للغاية معالجة هذه المشكلة، لأن التعليم العالي هو المصدر الأساسي لإنتاج الكفاءات والقيادات. فهو يتحمّل مسؤولية تخريج طلاب قادرين على التغيير وتحسين الأوضاع القائمة وتطوير المجتمع. إن الممارسات الفاسدة في التعليم العالي تقطع الصلة بين بين العمل الجاد والمكافأة، وتغذّي فكر "الغاية تبرر الوسيلة"، وهو ما قد يؤدي إلى تآكل النزاهة والتماسك داخل المجتمع.
أظهر استطلاع شمل 7,000 شاب وشابة (تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً) في شرق إفريقيا أن 60% منهم يُعجبون بمن يستخدمون أساليب الثراء السريع. كما رأى أكثر من نصفهم أنه لا يهم كيف يجني المرء المال، بينما صرّح 53% بأنهم على استعداد لفعل أي شيء من أجل الحصول على المال. وأفاد 37% أنهم سيأخذون أو يدفعون رشوة، فيما اعتبر 35% أنه لا يوجد خطأ في الفساد. وهكذا يتلاشى الحد الفاصل بين الأخلاق والمكافأة حتى يكاد يصبح غير مرئي.
ركائز الفساد في مؤسسات التعليم العالي
الفساد السياسي
من أكثر أشكال الفساد السياسي شيوعاً في قطاع التعليم، منح الشهادات والمؤهلات لسياسيين أو أقاربهم والمقربين منهم من دون استحقاق. وهناك شكل آخر أكثر خطورة من الفساد السياسي ظهر في بعض المجتمعات ما بعد الشيوعية، حيث كانت الدولة تتعمّد دفع أجور زهيدة للعاملين في الجامعات، ما يدفعهم إلى الانخراط في ممارسات فساد لتعويض دخلهم. وبعد ذلك تُجمع الأدلة ضدهم ويُستخدم ذلك كوسيلة للضغط عليهم لإجبارهم على الامتثال ودعم النظام الحاكم. وبهذا، تحوّلت الجامعات إلى أدوات للتنشئة السياسية، وأسهمت هذه الاستراتيجية في إطالة عمر الأنظمة القائمة.
الغش الأكاديمي والانتحال
الانتحال و"مصانع المقالات": يحدث الانتحال (السرقة الأدبية) عندما ينسب شخصٌ أفكار أو عبارات أو بيانات غيره إلى نفسه على أنها عمله الخاص، غالباً من دون ذكر المصدر. أمّا "الانتحال الذاتي"، فيتمثل في إعادة تقديم عمل سبق للطالب تقديمه. وفي السنوات الأخيرة، انتشر بشكل متزايد تقديم بحوث أو رسائل علمية أو أطروحات يكتبها آخرون بالنيابة، وهو ما يُعرف بـ "الغش التعاقدي" أو "مصانع المقالات". وقد شهدت العديد من الجامعات في شرق إفريقيا ازدهاراً في هذه الصناعة، حيث أصبح من السهل جداً تكليف شخص بإنجاز بحث أو كتابة أكاديمية. ففي منطقة وانديغيا، إحدى ضواحي كمبالا بالقرب من جامعة ماكيريري في أوغندا، تنتشر واجهات المحلات التي تعلن عن خدمات "كتابة المقترحات البحثية" مقابل أجر مالي.
الانتحال الذاتي شائع في مؤسسات التعليم العالي. حيث يلجأ بعض الطلاب إلى الطرق السهلة باستئجار محترفين سبق أن باعوا العمل نفسه لعدد كبير من الطلاب من قبل. (مصدر الصورة: قسم البحوث بجامعة UH)
من أشكال الفساد الشائعة في مؤسسات التعليم العالي الغش في الامتحانات، والذي يمكن أن يحدث بطرق متعددة؛ مثل تسريب الامتحانات مسبقاً، أو انتحال الشخصية حيث يدفع الطالب لشخص آخر ليجلس مكانه في قاعة الامتحان، إضافةً إلى تعديل الدرجات، سواء مباشرة على ورقة الإجابة أو من خلال نظام إدارة سجلات الامتحانات. وغالباً ما يتم هذا التلاعب مقابل رشوة يقدمها الطالب لأحد الأساتذة أو لأحد أعضاء الفريق الإداري.
في عام 2017، تم توقيف 88 موظفاً في جامعة ماكيريري الأوغندية بتهمة الفساد على خلفية التلاعب في درجات الطلاب ومنح شهادات مزورة. وقد جرت هذه التعديلات عبر ما يُعرف بـ “الواجهة الخلفية” (backend) للبرنامج المستخدَم في إدارة سجلات الامتحانات.
الابتزاز الجنسي والتحرش
يُعرّف الاتحاد الدولي للقاضيات مصطلح "الابتزاز الجنسي" بأنه إساءة استخدام السلطة للحصول على منفعة أو مكسب جنسي. ويُعتبر هذا شكلاً من أشكال الفساد حيث يُستبدل الجنس بالمال ليكون هو "العملة" المستخدمة في الرشوة. ولا يقتصر احتمال وقوع مثل هذه الممارسات على قطاع أو بلد معين، بل يمكن أن يحدث في أي مكان يفتقر فيه أصحاب السلطة إلى النزاهة ويستغلون موقعهم للتعدي جنسياً على أشخاص ضعفاء خاضعون لسلطتهم.
التحرش والاستغلال الجنسي في مؤسسات التعليم العالي ظاهرة واسعة الانتشار. وتتعرض النساء لهذه المشكلة بما يعادل ضعف نسبة الحالات التي يُبلِّغ عنها الطلاب الذكور. (مصدر الصورة: الجمعية الأمريكية لعلم النفس)
يُعَدّ تحرش الأساتذة والمحاضرين الذكور بالطالبات والمحاضرات الإناث مشكلة خطيرة في التعليم العالي. ومع الأسف، فإن هذه القضية لم تُدرَس بشكل كافٍ، ونادراً ما تؤخذ بجدية، خاصة في الدول النامية. ففي جامعات شرق إفريقيا، ما تزال التقارير الإعلامية وصرخات الرأي العام ضد التحرش الجنسي شائعة جداً.
سُبل التخفيف من الفساد في الجامعات وقطاع التعليم العالي
إن أفضل طريقة لمواجهة هذه المشكلة هي معالجتها من الداخل وكشفها بوضوح. وبالاستناد إلى ركائز الفساد الأساسية التي تمت مناقشتها، يمكن النظر في عدة إجراءات لمعالجة كل منها على حدة.
الفساد السياسي
تحتاج الجامعات الإفريقية إلى الاستفادة من تجارب الدول الأخرى فيما يتعلق بآليات التحقق من صحة المؤهلات الأكاديمية. وتكتسب هذه الخطوة أهمية كبرى نظراً لتعدد حالات الشهادات المزيفة الصادرة عن قادة سياسيين ومؤسساتيّين. كما أن انتشار "مصانع الشهادات والدبلومات" يفرض ضرورة التثبت والتحقق من المؤهلات العلمية.
ويتطلب ذلك جهوداً مشتركة من قِبل هيئات تنظيم التعليم العالي حول العالم. فعلى سبيل المثال، تقوم لجنة التعليم العالي في باكستان ومركز تطوير الدرجات الأكاديمية والدراسات العليا في الصين، بعمليات التحقق من المؤهلات يدوياً وعبر الإنترنت. أما مجلس امتحانات غرب إفريقيا (WAEC) فقد بدأ في تنفيذ نظام رقمي متطور يعتمد على رمز سري فريدًا للتحقق من صحة المؤهلات من خلال قاعدة بيانات. حيث يُرسل مع طلب الطالب بطاقة كشط تحتوي على رقم تسلسلي ورمز استخدام لمرة واحدة للوصول إلى السجل الرسمي للامتحانات أو التحقق منه عبر الإنترنت. وبالمثل، أطلقت الحكومة الماليزية حديثاً قاعدة بيانات إلكترونية تتيح التحقق من شهادات الدكتوراه.
وعليه، ينبغي للدول والجامعات في شرق إفريقيا أن تتعاون لإنشاء قواعد بيانات مركزية تُمكِّن أصحاب العمل والمؤسسات الأخرى من التحقق من صحة الشهادات والدبلومات الصادرة عن المسؤولين وأصحاب المناصب.
الانتحال
لمعالجة مشكلة الغش والانتحال، يمكن اتخاذ إجراءات من بينها تغيير أساليب التقييم وإضافة وسائل بديلة مثل العروض التقديمية والامتحانات الشفوية لمساعدة الطالب على الارتقاء بدرجاته، وتجنب الاعتماد كلياً على نتائج أحادية الجانب تُلخص في مقال واحد ذي أهمية بالغة. كبديل، يُعدّ التقييم الذي يعتمد على تجارب الطالب الشخصية، وواجباته الصفية، ومسوداته السابقة، وملاحظاته، أكثر صعوبة في الكتابة بالنيابة عنه.
وعموماً، فإن فهم الأسباب الجذرية للانتحال هو الأساس لوضع الحلول المناسبة. فقد أصبح التعليم اليوم مسألة مصيرية عالية الرهانات، ويتعرض الطلاب لضغوط هائلة من عائلاتهم للنجاح. لذا، فإن دعم الطلاب لتحقيق أفضل أداء ممكن بدلاً من التركيز على الفشل والعقاب سيساعد في ترسيخ فلسفة متوازنة للتعليم والنجاح.
التحرش الجنسي
رغم أن العديد من الجامعات قد أصدرت سياسات خاصة لمكافحة التحرش الجنسي، فإن هذه السياسات غالباً لم تُطبَّق لأسباب متعددة. فعلى سبيل المثال، أصدرت جامعة ماكيريري في أوغندا سياسة ولائحة لمكافحة التحرش الجنسي عام 2006، لكن لم يُسجَّل سوى حالة واحدة فقط تم التعامل معها من خلال الإطار الذي وضعته هذه السياسة.
ومؤخراً، بدأت هيئة الأمم المتحدة للمرأة بتجربة مبادرة جديدة لتعزيز المساواة بين الجنسين في الجامعات ضمن حملة (هو من أجلها). وترى هذه المبادرة مكافحة التحرش الجنسي جزءاً أساسياً من تحسين تكافؤ الفرص بين الجنسين في الجامعات. وهي حملة عالمية تهدف إلى إشراك الرجال والفتيان في إزالة الحواجز الاجتماعية والثقافية التي تمنع النساء والفتيات من تحقيق إمكاناتهن، وبالتالي تسعى إلى إعادة تشكيل المجتمع. وتشمل هذه الحملة العالمية أيضاً جامعات في شرق إفريقيا، مثل جامعة دار السلام وجامعة دودوما في تنزانيا.
ولا نجد إلا الأمل في أن مثل هذه المبادرات قد تسهم في مكافحة الممارسات الفاسدة، تلك التي تسمم منابع التنمية وتفسد روافدها المؤدية إلى النمو الوطني.