هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

جميع الصور التُقطت في أبريل 2024 بواسطة مصوّر فضّل عدم الكشف عن هويته نظراً للمخاطر التي تُحيط بالتصوير الفوتوغرافي في الولاية.


في نيالا، جنوب دارفور، لم تقتصر الحرب على تدمير المنازل وتشريد العائلات فحسب بل ألقت بظلالها القاتمة أيضاً على البيئة. فقد اختفت الغابات، وتلوثت مصادر المياه أو أصبحت بعيدة المنال، وتحوّلت الزراعة في كثير من المناطق إلى مهمة شبه مستحيلة. ومع ذلك، ورغم كل هذه الظروف، يبذل الناس ما في وسعهم للتكيّف، والبقاء، بل وحتى إعادة البناء. وبينما تتفاقم هذه الأزمات، تبتكر المجتمعات المحلية حلولاً صغيرة النطاق لحماية بيئتها وسبل عيشها. تقول فاطمة موسى، وهي معلمة في مدرسة ابتدائية تبلغ من العمر 37 عاماً وتعيش في نيالا: "أشجارنا اختفت، لكننا ما زلنا هنا. علينا أن نجد وسيلة للعيش".


القطع الجائر للاشجار من قبل المواطنين من اجل حوجتهم. المصدر: مجهول


الأثر البيئي للنزاع في نيالا


إزالة الغابات وتدهور الأراضي:


أكدت دراسة استقصائية أجراها برنامج الأمم المتحدة للبيئة باستخدام الأقمار الصناعية في عام 2023 أن أكثر من 70% من الغطاء الشجري في جنوب دارفور قد فُقد خلال العقد الماضي، مما أدى إلى تسارع تآكل التربة وتدهور المناخ المحلي. ووفقاً لآدم الحاج، وهو خبير بيئي مقيم في هولندا وباحث في غابة كندوا: "غابات دارفور كانت بمثابة حاجز واقٍ، ليس فقط بيئياً، بل أيضاً اجتماعيًا. وعندما تختفي هذه الغابات، يصبح كل شيء أكثر هشاشة: أنظمة الغذاء، وأنماط هطول الأمطار، وحتى الصحة العامة".


غابة النيم بعد بدء القطع الجائر والقصف بالقنابل والصواريخ. المصدر: مجهول 


ومنذ عام 2015، أدى الدمار الكامل لغابة كندوا إلى خسائر كبيرة في التنوع البيولوجي وانخفاض في استقرار النظام البيئي في المنطقة. وقد تعرضت غابة النيم، المعروفة بفوائدها الطبية، للتهديد مع لجوء السكان إلى قطع الأشجار لتلبية احتياجاتهم العاجلة من الحطب والمأوى. هذا الفقدان أدى إلى تفاقم تآكل التربة وزاد من ضعف قدرة النظام البيئي على دعم الزراعة وسبل العيش. يوضح حسين أبكر، وهو مزارع يبلغ من العمر 45 عاماً ويعيش على أطراف الغابة: "لم نكن نرغب في قطع الأشجار، لكن اضطررنا لذلك لنأكل ونعيش".




غياب تطبيق القانون ونقص مصادر الوقود البديلة يؤدي إلى الاستهلاك الغير مشروع. المصدر: مجهول


ويضيف الخبير في البيئة والاستدامة، حاتم ريجال، أن "نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، تأثرت بشكل عميق بالحرب المستمرة، شأنها في ذلك شأن بقية المدن. لقد عانت الموارد الطبيعية، بما في ذلك الغابات والمراعي والحياة البرية، من تدهور شديد. وقد ازدادت إزالة الغابات وعمليات القطع الجائر بشكل كبير في ظل غياب تطبيق القانون وغياب مصادر بديلة للطاقة، مما أجبر السكان على الاعتماد بشكل مفرط على موارد الغابات. وتزداد هذه الضغوط بفعل تأثيرات تغيّر المناخ، وخاصة في محليات جنوب دارفور. وباعتبارها في قلب الصراع، لم تجد المجتمعات المحلية خيارات كثيرة سوى التعايش مع هذه الظروف المتدهورة".


ندرة المياه وتلوّثها:


تحوّل وادي نيالا، الذي كان في السابق مصدراً حيوياً للمياه لسكان المدينة، إلى مصدر ملوّث يشكّل خطراً على الصحة العامة. فقد ساهمت الأضرار الناتجة عن النزاع، وانهيار أنظمة إدارة النفايات، وتراكم الأنقاض، في تلوّث هذا المورد المائي الأساسي. ونتيجة لذلك، ارتفعت المخاطر الصحية بشكل كبير، خاصة بين الفئات الأكثر ضعفاً مثل الأطفال وكبار السن. أصبح الوصول إلى مياه نظيفة محدوداً للغاية، مما أدى إلى توترات وتنافس بين السكان. وتشير بيانات وزارة الصحة إلى أن حالات الأمراض المنقولة بالمياه ارتفعت بنسبة مثيرة للقلق بلغت 80% مقارنة بالسنوات السابقة. ومع تعطل أنظمة المياه التقليدية، لم يعد أمام العديد من العائلات خيار سوى الاعتماد على مصادر غير آمنة أو بعيدة. تقول أمينة إبراهيم، وهي أم لأربعة أطفال تعيش في معسكر عطاش: "كنا نستخدم مياه الصنبور سابقاً، الآن نعتمد على بئر مكشوفة واحدة فقط. والإسهالات لا تتوقف."


وادي نيالا برلي، وهو مصدر المياه. المصدر: مجهول


تعطّل الزراعة:


لطالما شكّلت الزراعة العمود الفقري لاقتصاد نيالا المحلي، لكن النزاع المستمر دمّر هذا القطاع الحيوي. فقد تم تهجير آلاف المزارعين قسراً، تاركين أراضيهم خلفهم. وبدون العناية المستمرة والحرث المنتظم، تدهورت التربة وتعرّضت للتآكل بسبب الرياح والإهمال وتقلّب هطول الأمطار. وقد زاد تغيّر المناخ الطين بلّة، حيث أدت التغيرات في أنماط الطقس إلى اضطراب مواسم الزراعة، مما جعل إنتاج الغذاء غير متوقع. ونتيجة لذلك، تفاقمت أزمة انعدام الأمن الغذائي على نطاق واسع، وأصبحت العديد من الأسر تواجه ضغوطاً اقتصادية متزايدة في ظل قلة الموارد المتاحة. ويقول يعقوب آدم، وهو مزارع ورعوي نازح من مرشينج: "أرضنا لم تعد خصبة. وحتى إن توقفت المعارك، فسنحتاج إلى سنوات حتى نتمكن من الزراعة مجدداً."


محطة مياه نيالا بعد الأضرار التي لحقت بها بسبب الصواريخ والقنابل. المصدر: مجهول


ووفقاً لتقرير مشترك صادر عن منظمة الأغذية والزراعة (FAO) وبرنامج الأغذية العالمي (WFP) في يونيو 2023، فإن أكثر من 4.5 مليون شخص في دارفور يواجهون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، تفاقم بفعل الحرب وصدمات المناخ معاً.

التكيّفات الاجتماعية:

أصبحت اللحمة الاجتماعية التي كانت متجذرة في ثقافة دارفور صعبة الملاحظة. فذاكرة المكان والمساحات العامة دُمّرت، تماماً كما دُمّرت البيئة. قد لا يكون فقدان التماسك الاجتماعي واضحاً للعين، لكنه مؤلم بذات القدر. فالمدارس مغلقة، والمراكز الصحية مدمّرة، وأماكن التجمع العام مثل "سينما نيالا" تحولت إلى أنقاض.


تقاطع سينما نيالا وهو معلم سياحي تاريخي في المدينة بعد الدمار. المصدر: مجهول


لكن في المقابل، أطلق الشباب في نيالا مبادرات غير رسمية مثل حملة "نيالا ستتعافى"، لاستعادة الذاكرة وإعادة بناء المساحات الاجتماعية. بدأ متطوعون في ترميم مواقع رمزية، وتنظيم أيام لتنظيف الأحياء، وإعادة طلاء الجدران في المناطق المتضررة بالقصف. هذه التكيّفات الاجتماعية ليست مجرد أدوات نفسية، بل هي أيضاً شكل هادئ وقوي من حراسة البيئة والمقاومة المدنية.

 

يقول حامد عبدالرحمن، شاب يبلغ من العمر 22 عاماً ومتطوع في "مبادرة شباب نيالا من أجل التعافي":

"ما فقدناه سيستغرق سنوات لاستعادته. لكن لا يمكننا الانتظار، نبدأ بما هو متاح بين أيدينا."

بدأت مجموعات شبابية في إعادة طلاء الجداريات والمدارس المتضررة، وإزالة ركام القنابل من الشوارع، وإعادة زراعة الأشجار المحلية في الساحات العامة. وهم يتواصلون وينسقون جهودهم عبر مجموعة كبيرة على منصة فيس بوك.


مبادرة نيالا تتعافى أثناء إعادة بناء تقاطع سينما نيالا. المصدر: مجهول


الخاتمة والتوصيات من أجل الدعم والاستدامة


نيالا تنزف؛ غاباتها أُزيلت، مياهها تسمّمت، ومزارعوها اقتُلِعوا من أراضيهم. ما كان يوماً نظاماً بيئياً مزدهراً ومجتمعاً يعتز بذاته، بات اليوم يصارع للبقاء تحت وطأة الصراع والإهمال والانهيار البيئي. لكن نيالا لم تستسلم. فوسط هذا الدمار، ينهض أهلها. المتطوعون الشباب يعيدون ترميم المعالم المدمّرة، والأسر تجمع مياه الأمطار متحدّية الجفاف، والمزارعون يجرّبون أساليب جديدة للزراعة في أراضٍ أنهكتها الحرب.


هذه ليست مجرد أفعال للبقاء على قيد الحياة؛ إنها إعلانات صريحة عن الأمل والانتماء والمقاومة. ومع ذلك، لا يمكن للأمل وحده أن يتحمل هذا العبء. لا يمكن ترك تعافي نيالا يعتمد فقط على شجاعة أهلها. إنها بحاجة ماسة إلى تدخل منسّق وعاجل، إلى استثمارات في أنظمة مياه نظيفة، إلى إعادة تشجير في المناطق الآمنة، ودعم للزراعة المستدامة. تحتاج نيالا إلى مانحين وصنّاع سياسات وفاعلين دوليين لا يتحركون بدافع الشفقة، بل بدافع المسؤولية والهدف. إذا استمر العالم في تجاهلها، فإننا لا نخسر مدينة فحسب؛ بل نخسر نموذجاً حيّاً للصمود.


لكن إذا وقفنا الآن إلى جانب المجتمعات الصامدة فيها، يمكن لنيالا أن تنهض من تحت الأنقاض، ليس فقط كمدينة متعافية، بل كنموذج لكيفية أن تنجو المجتمعات وتتكيف وتعيد بناء كرامتها. هل سيلتقي العالم نيالا في منتصف الطريق، أم سيترك صمودها يقاتل بمفرده؟ المبادرات المحلية مُلهمة، لكنها غير كافية.

استناداً إلى المقابلات، والملاحظات الميدانية، والنقاشات المجتمعية، نوصي بالتالي:


  • إطلاق حملات لإعادة التشجير، مع إعطاء الأولوية لأشجار النيم والسنط، بقيادة مجموعات محلية.
  • تنفيذ مشاريع طارئة لتوفير الوصول إلى المياه (آبار تعمل بالطاقة الشمسية، وفلاتر).
  • دعم الزراعة التجديدية صغيرة النطاق، خاصة تلك التي تقودها النساء والشباب.
  • إنشاء مساحات آمنة وتقديم دعم نفسي اجتماعي لحماية النسيج الاجتماعي وذاكرة المجتمع.

 


مقام كسّار

مَقام كسّار هي أخصائية في الصحة العامة والعمل المناخي من السودان، وتقيم حاليًا في أوغندا. تقود مشاريع بحثية مجتمعية تُركّز على الصمود المناخي، والصحة العامة، والنزوح في مناطق النزاع.