لاشك أن الطيب صالح أحدث فجوة كبيرة بينه و بين الروائيين السودانيين بالمستوى الرفيع من حيث اللغة و السرد و الوصف و الرمزية فأصبح الجيل الذي من بعده يكابد من أجل إثبات أسلوبه الخاص بمعزل عن تجربة الطيب صالح لكنه لم يحقق النجاح المطلوب. في مقدمة هذا الأسباب شح الإمكانيات و عدم توفر دور النشر المطلوبة داخل السودان، فأصبح الكاتب السوداني بمعزل عن العالم الخارجي على الرغم من أن التنوع الثقافي للسودان يمكن أن ينتج مشاريع ثقافية كاملة الدسم مثل التي في لوحات التشكيلي العالمي إبراهيم الصلحي و أشعار محمد مفتاح الفيتوري الذي أعتز بأفريقيته و روضة الحاج التي خرجت من تراب هذا الوطن، و أخيراً عبقري الرواية العربية الطيب صالح.
المناخ العام السياسي المضطرب في تعاقب الحكومات و عدم إيمانها بجدوى إخراج منتوج ثقافي سوداني خاص أدى لوأد كثير من التجارب الروائية أو القصصية أو شتى دروب الثقافة. معظم الذين أنتجوا كانوا خارج الوطن، و الذين في الداخل كان يصعب التواصل بينهم و بين دور النشر في لبنان التي كانت تعتبر الوجهة الأولى للطباعة في الوطن العربي. من الأسماء التي لمعت خارجياً ليلى أبو العلا التي تحمل الجنسيتين السودانية و البريطانية، و التي أنتجت في شتى مجالات الكتابة من قصص و رواية و مسرح و حظيت بالعديد من الجوائز و الترشيحات. و كما يوجد عيسى الحلو الذي أصدر باكورة إنتاجه الأدبي “ريش الببغاء” و هي مجموعة قصصية في بداية السبعينات و صادرة عن دار نشر لبنانية و توالت إصداراته عبر دور النشر الخارجية. لكن في المقابل هنالك أسماء لم تجد الصدى العالمي مثل إبراهيم إسحق الذي نُشرت له رواية واحدة في سبعينيات القرن الماضي و إكتفى بنشر قصصه الباقية من خلال المجلات المحلية حتى حدثت طفرة دور النشر الداخلية فنشرت له رواية مطلع الألفية الجديدة.
مع ثورة التعليم العالي التي أتت بعد حكم الإنقاذ حدثت نقلة نوعية للرواية الشابة أو الرواية عموماً في السودان فأصبحت الجامعة كمجتمع صغير يضم كافة بقاع السودان. تشكلت الجمعيات الثقافية والتي إهتمت بمجالات الشعر والمسرح و الغناء والكتابة، وإن كانت الكتابة ليست بمستوى باقي النشاطات ولكن حدث لها دفع قليل إلى الأمام بفعل تكوين مجموعات صغيرة تقرأ و تناقش روايات لكتاب عالميين و محليين و بالتالي ظهور مجموعة من الكتاب من خلال دفع زملائهم لهم و التعديل على القصص و المراجعات. هذا ما ميّز هذا الجيل عن غيره من الأجيال السابقة، بتشجيع و تنمية المواهب في أفراده بعمل مسابقات صغيرة داخل الجامعات بهدايا تشجيعية و رمزية دفعت العديد منهم للمواصلة و إخراج محاولات نصوص قديمة.

أحدى الظواهر التي ساعدت في إنطلاقة للشباب عبر الكتابة جائت في عام 2005، حيث تبنت الحكومة طباعة بعض القصص و الدواوين الشعرية لمجموعة مختلفة كانت في الأساس تتبع لبرنامج “الخرطوم عاصمة الثقافة العربية”. للأمانة، صادف ذلك نفس سنة إنتشار دور النشر في السودان، فإيمانها بقومية التوجه ساعد في إذابة الجبل بين القارئ و الكاتب الشاب. و لعل هذا يعتبر من الأشياء التي تحسب لحكومة الإنقاذ في التوجه للشباب في هذا الجانب، و كذلك مبادرة هيئة الخرطوم للنشر التي أصدرت كتاب “دروب جديدة، أفق ثالث” و الذي يحوي قصص قصيرة لأكثر من عشرة كتاب شباب.
الإنطلاقة الحقيقية للشباب بدأت في مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي الذي كرّس جائزة الطيب صالح لتخليد ذكرى راحلنا المجيد، و الجائزة متقسمة على ثلاثة فروع القصص القصيرة و الرواية و الشعر، لينتافس عليها الكُتاب الناشئين سنوياً منذ عام 2002. إسم المركز يرجع لعبد الكريم ميرغني محمد الذي يعد من مؤسسي السفارة السودانية في بريطانيا بعد الإستقلال. من ثم رجع للسودان و عمل في الحكومات المتعاقبة بعد الإطاحة بحكومة عبود، لكن مع إنقلاب الشيوعيين تم سجنه لفترة طويلة و بعد خروجه إعتزل العمل السياسي وفتح منزله كصالون ثقافي يحتوي الأطباء و المثقفين و السياسيين. هذه الجائزة ساعدت الكثير من الروائيين الشباب على الظهور مثل عبد العزيز بركة ساكن. يقوم المركز بطباعة القصص الفائزة على حسابه الخاص. هنالك أيضاً عدة مساهمات للمركز، حيث قام بترجمة العديد من الأعمال الأجنبية حتى وصلت إلى أكثر من مائة وأربعين إصدار و كذلك يوجد “نفاج” و هو قسم إفتتحه الشاعر الراحل محجوب شريف، والقسم معني بالأطفال حيث لديهم مكتبتهم ومساعدة خاصة في مجال الكتابة.
الحراك الثقافي في مجال القصة أنتج مشاريع عديدة لإكتشاف الشباب مثل جائزة غادة للكتاب المخصصة لأعمار بين 14-18 سنة. بدأت الجائزة في العام 2010 تخليداً لذكرى غادة مجتبى محسي تلك الصبية ذات الخمسة عشرة عاماً التي وافتها المنية في نفس عام إنطلاق الجائزة. تحتوي المسابقة أيضا على مجال الرسم.
يُتبع.
في المقالات القادمة سأتحدث عن أثر التكنولوجيا و تأثيرها في بروز عدد من الكتاب الشباب على المستوى الإقليمي، و كذلك نماذج لهم و رؤية مستقبلية للرواية الشابة في السودان.